(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) (٢٦)
____________________________________
المقام (مِنَ الرَّحْمَةِ) من فرط رحمتك وعطفك عليهما ورقتك لهما لافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق* الله تعالى إليهما ولا تكتف برحمتك الفانية بل ادع الله لهما برحمته الواسعة الباقية (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما) * برحمتك الدنيوية والأخروية التى من جملتها الهداية إلى الإسلام فلا ينافى ذلك كفرهما (كَما رَبَّيانِي) الكاف* فى محل النصب على نعت لمصدر محذوف أى رحمة مثل تربيتهما لى أو مثل رحمتهما لى على أن التربية رحمة ويجوز أن يكون لهما الرحمة والتربية معا وقد ذكر أحدهما فى أحد الجانبين والآخر فى الآخر كما يلوح به التعرض لعنوان الربوبية فى مطلع الدعاء كأنه قيل رب ارحمهما وربهما كما رحمانى وربيانى (صَغِيراً) * ويجوز أن تكون الكاف للتعليل أى لأجل تربيتهما لى كقوله تعالى (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) ولقد بالغ عزوجل فى التوصية بهما حيث افتتحها بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده سبحانه ونظمهما فى سلك القضاء بهما معا ثم ضيق الأمر فى باب مراعاتهما حتى لم يرخص فى أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع ماله من موجبات الضجر مالا يكاد يدخل تحت الحصر وختمها بأن جعل رحمته التى وسعت كل شىء مشبهة بتربيتهما وعن النبى صلىاللهعليهوسلم رضى الله فى رضى الوالدين وسخطه فى سخطهما وروى يفعل البار ما يشاء أن يفعل فلن يدخل النار ويفعل العاق ما يشاء أن يفعل فلن يدخل الجنة وقال رجل لرسول الله صلىاللهعليهوسلم إن أبوى بلغا من الكبر أنى ألى منهما ما وليا منى فى الصغر فهل قضيتهما حقهما قال لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما وروى أن شيخا أتى النبى صلىاللهعليهوسلم فقال إن ابنى هذا له مال كثير وإنه لا ينفق على من ماله فنزل جبريل عليهالسلام وقال إن هذا الشيخ قد أنشأ فى ابنه أبياتا ما قرع سمع بمثلها فاستنشدها فأنشدها الشيخ فقال[غذوتك مولودا ومنتك يافعا *
تعل بما أجنى عليك وتنهل] *[إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت * لسقمك إلا باكيا أتململ] * [كأنى أنا المطروق دونك بالذى * طرقت به دونى وعينى تهمل] * [فلما بلغت السن والغاية التى * إليها مدى ما كنت فيك أؤمل] * [جعلت جزائى غلظة وفظاظة * كأنك أنت المنعم المتفضل] * [فليتك إذ لم ترع حق أبوتى * فعلت كما الجار المجاور يفعل] فغضب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال أنت ومالك لأبيك (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) من البر والعقوق (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) قاصدين للصلاح والبر دون العقوق والفساد (فَإِنَّهُ) تعالى (كانَ لِلْأَوَّابِينَ) أى الرجاعين إليه تعالى عما فرط منهم ممالا يكاد* يخلو عنه البشر (غَفُوراً) لما وقع منهم من نوع تقصير أو أذية فعلية أو قولية وفيه مالا يخفى من التشديد* فى الأمر بمراعاة حقوقهما ويجوز أن يكون عاما لكل تائب ويدخل فيه الجانى على أبويه دخولا أوليا (وَآتِ ذَا الْقُرْبى) أى ذا القرابة (حَقَّهُ) توصية بالأقارب إثر التوصية ببر الوالدين ولعل المراد بهم المحارم وبحقهم النفقة كما ينبىء عنه قوله تعالى (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) فإن المأمور به فى حقهما المواساة* المالية لا محالة أى وآتهما حقهما مما كان مفترضا بمكة بمنزلة الزكاة وكذا النهى عن التبذير وعن الإفراط فى القبض