التى أنعم بها عليكم (لا تُحْصُوها) لا تطيقوا بحصرها ولو إجمالا فإنها غير متناهية وأصل الإحصاء أن* الحاسب إذا بلغ عقدا معينا من عقود الأعداد وضع حصاة ليحفظ بها ففيه إيذان بعدم بلوغ مرتبة معتد بها من مراتبها فضلا عن بلوغ غايتها كيف لا وما من فرد من أفراد الناس وإن كان فى أقصى مراتب الفقر والإفلاس ممنوا بأصناف العنايا مبتلى بأنواع الرزايا فهو بحيث لو تأملته ألفيته متقلبا فى نعم لا تحد ومنن لا تحصى ولا تعد كأنه قد أعطى كل ساعة وآن من النعماء ما حواه حيطة الإمكان وإن كنت فى ريب من ذلك فقدر أنه ملك ملك أقطار العالم ودانت له كافة الأمم وأذعنت لطاعته السراة وخضعت لهيبته رقاب العتاة وفاز بكل مرام ونال كل منال وحاز جميع ما فى الدنيا من أصناف الأموال من غير ند يزاحمه ولا شريك يساهمه بل قدر أن جميع ما فيها من حجر ومدر يواقيت غالية ونفائس درر ثم قدر أنه قد وقع من فقد مشروب أو مطعوم فى حالة بلغت نفسه الحلقوم فهل يشترى وهو فى تلك الحال بجميع ما له من الملك والمال لقمة تنجيه عن رواه أو شربة ترويه من ظماه أم يختار الهلاك فتذهب الأموال والأملاك بغير بدل يبقى عليه ولا نفع يعود إليه كلا بل يبذل لذلك كل ما تحويه اليدان كائنا ما كان وليس فى صفقته شائبة الخسران فإذن تلك اللقمة والشربة خير مما فى الدنيا بألف رتبة مع أنهما فى طرف الثمام ينالهما متى شاء من الليالى والأيام أو قدر أنه قد احتبس عليه النفس فلا دخل منه ما خرج ولا خرج منه ما ولح والحين قد حان وأتاه الموت من كل مكان أما يعطى ذلك كله بمقابلة نفس واحد بل يعطيه وهو لرأيه حامد فإذن هو خير من أموال الدنيا بجملتها ومطالبها برمتها مع أنه قد أبيح له كل آن من آنات الليالى والأيام حال اليقظة والمنام هذا من الظهور والجلاء بحيث لا يكاد يخفى على أحد من العقلاء وإن رمت العثور على حقيقة الحق والوقوف على كل ما جل من السرودق فاعلم أن الإنسان بمقتضى حقيقته الممكنة بمعزل عن استحقاق الوجود وما يتبعه من الكمالات اللائقة والملكات الرائقة بحيث لو انقطع ما بينه وبين العناية الإلهية من العلاقة لما استقر له القرار ولا اطمأنت به الدار إلا فى مطمورة العدم والبوار ومهاوى الهلاك والدمار لكن يفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه وتقدس فى كل زمان يمضى وكل آن يمر وينقضى من أنواع الفيوض المتعلقة بذاته ووجوده وسائر صفاته الروحانية والنفسانية والجسمانية ما لا يحيط به نطاق التعبير ولا يعلمه إلا العليم الخبير وتوضيحه أنه كما لا يستحق الوجود ابتداء لا يستحقه بقاء وإنما ذلك من جناب المبدأ الأول عزوجل فكما لا يتصور وجوده ابتداء ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الأصلى لا يتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققه بعلته ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الطارىء لأن الاستمرار والدوام من خصائص الوجود الواجبى وأنت خبير بأن ما يتوقف عليه وجوده من الأمور الوجودية التى هى علله وشرائطه وإن وجب كونها متناهية لوجوب تناهى ما دخل تحت الوجود لكن الأمور العدمية التى لها دخل فى وجوده ليست كذلك إذ لا استحالة فى أن يكون لشىء واحد موانع غير متناهية وإنما الاستحالة فى دخولها تحت الوجود فارتفاع تلك الموانع التى لا تتناهى أعنى بقاءها على العدم مع إمكان وجودها فى أنفسها فى كل آن من آنات وجوده نعم غير متناهية حقيقة