(وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) (٤٥)
____________________________________
وأملتم بعيدا ولم تحدثوا أنفسكم بالانتقال منها إلى هذه الحالة وفيه إشعار بامتداد زمان التأخير وبعد مداه أو مالكم من زوال من هذه الدار إلى دار أخرى للجزاء كقوله تعالى (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) وصيغة الخطاب فى جواب القسم لمراعاة حال الخطاب فى أقسمتم كما فى قوله حلف بالله ليخرجن وهو أدخل فى التوبيخ من أن يقال ما لنا مراعاة لحال المقسم ذكر البهيقى عن محمد بن كعب القرظى أنه قال لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله تعالى فى أربع منها فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا يقولون ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل فيجيبهم الله تعالى ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلى الكبير ثم يقولون (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) فيجيبهم الله تعالى (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) الآية ثم يقولون (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) فيجيبهم الله تعالى (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ) الآية ثم يقولون (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) فيجيبهم الله تعالى (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) فيقولون (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) فيجيبهم الله تعالى (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) فلا يتكلمون بعدها أبدا إن هو إلا زفير وشهيق وعند ذلك انقطع رجاؤهم وأقبل بعضهم ينبح فى وجه بعض وأطبقت عليهم جهنم اللهم إنا بك نعوذ وبكنفك نلوذ عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك (وَسَكَنْتُمْ) من السكنى بمعنى التبوؤ والإيطان وإنما استعمل بكلمة فى حيث قيل (فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) جريا على الأصل لأنه منقول عن مطلق السكون الذى* حقه التعدية بها أو من السكون واللبث أى قررتم فى مساكنهم مطمئنين سائرين سيرتهم فى الظلم والكفر والمعاصى غير محدثين لأنفسكم بما لقوا بسبب ما اجترحوا من الموبقات وفى إيقاع الظلم على أنفسهم بعد إطلاقه فيما سلف إيذان بأن غائلة الظلم آئلة إلى صاحبه والمراد بهم إما جميع من تقدم من الأمم المهلكة على تقدير اختصاص الاستمهال والخطاب السابق بالمنذرين وإما أوائلهم من قوم نوح وهود على تقدير عمومهما للكل وهذا الخطاب وما يتلوه باعتبار حال أواخرهم (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ) بمشاهدة الآثار وتواتر الأخبار* (كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) من الإهلاك والعقوبة بما فعلوا من الظلم والفساد وكيف منصوب بما بعده من الفعل* وليس الجملة فاعلا لتبين كما قاله بعض الكوفيين بل فاعله ما دلت هى عليه دلالة واضحة أى فعلنا العجيب بهم وفيه من المبالغة ما ليس فى أن يقال ما فعلنا بهم كما مر فى قوله تعالى (لَيَسْجُنُنَّهُ) وقرىء وبين (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) أى بينالكم فى القرآن العظيم على تقدير اختصاص الخطاب بالمنذرين أو على ألسنة الأنبياء عليهمالسلام على تقدير عمومه لجميع الظالمين صفات ما فعلوا وما فعل بهم من الأمور التى هى فى الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم لتعتبروا بها وتقيسوا أعمالكم على أعمالهم ومآلكم على مآلهم وتنتقلوا من حلول