وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ) [يس : ٣٣ ـ ٣٥].
[مسألة] استدل لمذهب الإمام مالك في كون قول الجريح : فلان قتلني ، لوثا (١) بهذه القصة ، لأن القتيل لما حيي سئل عمن قتله ، فقال فلان قتلني ، فكان ذلك مقبولا منه ، لأنه لا يخبر حينئذ إلا بالحق ، ولا يتهم والحالة هذه. ورجحوا ذلك لحديث أنس أن يهوديا قتل جارية على أوضاح (٢) لها ، فرضخ رأسها بين حجرين ، فقيل : من فعل بك هذا ، أفلان؟ أفلان؟ حتى ذكروا اليهودي ، فأومأت برأسها ، فأخذ اليهودي ، فلم يزل به حتى اعترف ، فأمر رسول اللهصلىاللهعليهوسلم أن يرض رأسه بين حجرين ، وعند مالك إذا كان لوثا ، حلف أولياء القتيل قسامة ، وخالف الجمهور في ذلك ، ولم يجعلوا قول القتيل في ذلك لوثا.
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٧٤)
يقول تعالى توبيخا لبني إسرائيل وتقريعا لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى وإحيائه الموتى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) كله ، فهي كالحجارة التي لا تلين أبدا ، ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم ، فقال : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) [الحديد : ١٦] قال العوفى في تفسيره عن ابن عباس : لما ضرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان قط ، فقيل له : من قتلك؟ قال : بنو أخي قتلوني ثم قبض ، فقال بنو أخيه حين قبضه الله : والله ما قتلناه فكذبوا بالحق بعد أن رأوه فقال الله (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ، يعني أبناء أخى الشيخ فهي كالحجارة أو أشد قسوة ، فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات ، فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة فإن من الحجارة ما يتفجر منها العيون بالأنهار الجارية ، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء وإن لم يكن جاريا ، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله وفيه إدراك لذلك بحسبه ، كما قال : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [الإسراء : ٤٤].
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : إنه كان يقول : كل حجر يتفجر منه الماء : أو يتشقق عن ماء أو يتردى من رأس جبل لمن خشية الله نزل بذلك القرآن. وقال محمد بن إسحاق حدثني
__________________
(١) اللّوث عند الإمام الشافعي : شبه الدلالة ، ولا يكون بنية تامة. وفي حديث القسامة ذكر اللوث ، وهو أن يشهد شاهد واحد على إقرار المقتول ، قبل أن يموت ، بأن فلانا قتلني أو يشهد شاهدان على عداوة بينهما ، أو تهديد منه له ، أو نحو ذلك. وهو من التلوّث : التلطّخ (لسان العرب)
(٢) الأوضاح : الحليّ من الدراهم الصحاح ، والخلاخل.