والصحيح أن الكرسي غير العرش ، والعرش أكبر منه ، كما دلت على ذلك الآثار والأخبار ، وقد اعتمد ابن جرير على حديث عبد الله بن خليفة عن عمر في ذلك ، وعندي في صحته نظر ، والله أعلم.
وقوله : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) أي لا يثقله ولا يكرثه حفظ السموات والأرض ، وما فيهما ، ومن بينهما ، بل ذلك سهل عليه ، يسير لديه ، وهو القائم على كل نفس بما كسبت ، الرقيب على جميع الأشياء ، فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شيء ، والأشياء كلها حقيرة بين يديه ، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، وهو القاهر لكل شيء ، الحسيب على كل شيء ، الرقيب العلي العظيم ، لا إله غيره ، ولا رب سواه ، فقوله : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) كقوله : (الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) [الرعد : ٩] وهذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح ، إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه.
(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٥٦)
يقول تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام ، فإنه بيّن واضح ، جلي دلائله وبراهينه ، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه ، بل من هداه الله للإسلام ، وشرح صدره ، ونور بصيرته ، دخل فيه علي بينة ، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره ، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا ، وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار ، وإن كان حكمها عاما.
وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كانت المرأة [من الأنصار] (٢) تكون مقلاتا (٣) ، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده ، فلما أجليت بنو النضير ، كان فيهم من أبناء الأنصار ، فقالوا : لا ندع أبناءنا ، فأنزل الله عزوجل (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) ، وقد رواه أبو داود والنسائي جميعا عن بندار به ، ومن وجوه أخر عن شعبة به نحوه. وقد رواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه من حديث شعبة به ، وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم ، أنها نزلت في ذلك.
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد الحرشي مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة أو عن سعيد ، عن ابن عباس قوله : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) قال : نزلت في رجل من الأنصار من
__________________
(١) تفسير الطبري ٣ / ١٥.
(٢) الزيادة من الطبري.
(٣) المقلات : التي لا يعيش لها ولد.