الذي تركناه. وقال قتادة : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) يقول : آية فيها تخفيف فيها رخصة فيها أمر فيها نهي.
وقوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) ، يرشد عباده تعالى بهذا ، إلى أنه المتصرف في خلقه ، بما يشاء ، فله الخلق والأمر وهو المتصرف ، فكما خلقهم كما يشاء ، ويسعد من يشاء ، ويشقي من يشاء ويصح من يشاء ويمرض من يشاء ، ويوفق من يشاء ، ويخذل من يشاء كذلك يحكم في عباده بما يشاء ، فيحل ما يشاء ويحرم ما يشاء ويبيح ما يشاء ويحظر ما يشاء وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ ، فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى ، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا ، وامتثال ما أمروا ، وترك ما عنه زجروا. وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم لعنهم الله ، في دعوى استحالة النسخ ، إما عقلا كما زعمه بعضهم جهلا وكفرا ، وإما نقلا كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكا
قال الإمام أبو جعفر بن جرير (١) رحمهالله : فتأويل الآية : ألم تعلم يا محمد ، أن لي ملك السموات والأرض وسلطانهما دون غيري ، أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء ، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء ، وأنهى عما أشاء ، وأنسخ وأبدل وأغير ، من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ، بما أشاء إذ أشاء ، وأقر منهما ما أشاء. ثم قال : وهذا الخبر وإن كان خطابا من الله تعالى ، لنبيهصلىاللهعليهوسلم على وجه الخبر ، عن عظمته فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود ، الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله ، بتغيير ما غير الله من حكم التوراة ، فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما ، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته ، وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه ، وأن له أمرهم بما يشاء ونهيهم عما يشاء ، ونسخ ما يشاء ، وإقرار ما يشاء ، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه.
(قلت) الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ ، إنما هو الكفر والعناد ، فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى ، لأنه يحكم ما يشاء ، كما أنه يفعل ما يريد ، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية ، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ، ثم حرم ذلك ، وكما أباح لنوح ، بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات ، ثم نسخ حل بعضها ، وكان نكاح الأختين مباحا لإسرائيل وبنيه ، وقد حرم ذلك في شريعة التوراة
__________________
(١) تفسير الطبري ١ / ٥٢٩.