بكذب العلوم النظرية ؛ فإن العقل إن صدق فى الضروريات ، فما بال عقل السوفسطائية كذب ؛ وما الفرق بين عقلكم وعقلهم؟ أفتقولون إن ذلك منهم حماقة وسوء مزاج؟ ـ قلنا : وكذلك حالكم فى إنكار النظريات ، وهو كمن ينكر الحسابيات من العلوم ؛ فإنه لا يشككنا فى البراهين الحسابية وإن كان البليد لا يفهم ، ومنكر النظر أصلا يجحده ؛ ولكن طريقنا معه أن نورد عليه المقدمات ، وهى ضرورية ، فإذا أدركها أدرك النتيجة فكذلك خصمنا إذا كذبنا فى مسألة من المسائل كإنكار ثبوت واجب الوجود عرضنا عليه مقدمات القياس الدالة عليه وقلنا : أتمارى فى قولنا : لا شك فى أصل الوجود؟ أو فى قولنا : إن كل موجود إما جائز وإما واجب؟ أم فى قولنا : إن كان واجبا فقد ثبت واجب الوجود؟ أم فى قولنا : إن كان جائزا فكل جائز مستند إلى واجب الوجود فى آخر الأمر لا محالة؟ ـ وإذا لم يمكنه التشكك فى المقدمات لم يمكنه التشكك فى النتيجة ، وإنما يختلف الناس فيها لأن الفطرة غير كافية فى تعريف الترتيب لهذه المقدمات ، بل لا بدّ من تعلمها من الأفاضل ، وذلك الفاضل لا بدّ أن يكون تعلم أكثرها أو استأثر باستنباط بعضها ، وهكذا حتى ينتهى الأمر إلى معلم معصوم هو نبى موحى إليه من جهة الله تعالى ، هكذا تكون العلوم كلها.
فإن زعموا أنكم اعترفتم بالحاجة إلى المعلم ومن لم يعترف فهو معاند للمشاهدة ، فالافتقار إليه معترف به ، ولكنه كالافتقار إليه فى علم الحساب ، فإنه لا يحتاج فيه إلى معصوم ، إذ لا تقليد فيه ، ولكن يحتاج إلى حاسب ينبه على طريق النظر ، فإذا تنبه المعلم ساوى المعلم فى العلم الضرورى المستفاد من المقدمات بعضها على بعض. ولا شك فى أن معلم الحساب أيضا يعلم أكثر مما يعلّم ، وإن استقل باستنباط ترتيب البعض ، وكذا القول فى معلم المعلم إلى أن ينتهى مبدأ العلم الحسابى إلى نبى من الأنبياء مؤيد بالوحى والمعجزة ، ولكن بعد إفاضة الله علم الحساب فيما بين الخلق استغنى فى تعلمه عن معلم معصوم ، فكذا العلوم العقلية النظرية ، ولا فرق.