(الاعتراض الثانى) أن يقال لهم : أنكرتم من خصومكم تصديق العقل فى نظره واخترتم تكذيبه ، فبما ذا تعرفون الحق وتميزون بينه وبين الباطل؟ أبضرورة العقل ولا سبيل إلى دعواها ، أو بنظره فتضطرون إلى الرجوع إلى النظر؟ فقد صدقتموه إذا بعد تكذيبه فتناقض كلامكم. فإن قلتم : نحن نأخذه من الإمام المعصوم ـ قلنا : وبم تعرفون صدقه؟ فإن قلتم : لأنه معصوم ، قلنا : وبم تعرفون عصمته؟ ـ فإن قلتم بضرورة العقل لم يخف عليكم خزيكم وعرفتم فى الباطن من أنفسكم خلاف ما أظهرتم ، فإن عصمة رسول الله صلىاللهعليهوسلم مع معجزته لم تعرف بضرورة العقل ، حتى أنكر رسالته طوائف ، بل أنكر بعثة الرسل جميع البراهمة (١) ، وأنكر الأكثرون من المسلمين عصمة الأنبياء ، واستدلوا بقوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه : ١٢١]. إلى غير ذلك مما اشتمل القرآن على حكايته من أحوال الأنبياء. فإذا لم تعرف عصمة صاحب المعجزة ضرورة فكيف تعرف عصمة صاحبكم ضرورة؟
فإن قيل : نحن نعرفه بالنظر ، ولكن النظر تعلم منه ، والنظر ينقسم إلى صحيح وفاسد ؛ وتمييز صحيحه عن فاسده ممتنع على كافة الخلق إلا على الإمام الحق ، فهذا الميزان الموضح للفرقان بين الشبهة والبرهان ، فقد عرفنا صحة النظر الّذي استفدنا منه فاطمأنت نفوسنا إليه بتزكيته وتعليمه.
قلنا : والنظر الّذي علمكموه هل افتقرتم فى فهمه إلى تأمل ، أم هو مدرك على البديهة؟ فإن ادعيتم البديهة فما أشد جهلكم إذ يرجع حاصله إلى أن معرفة عصمته عرفت بالبديهة ، وهو كذب صريح. وإن افتقرتم إلى التأمل فذلك التأمل يعرف بالعقل ، أم لا؟ ولا بدّ أن يقال : إنه بالعقل. فنقول : والعقل إذا قضى عند التأمل بقضية فهو صادق أم لا؟ فإن قالوا : لا ، فلم صدقوه؟ وإن قالوا : نعم هو صادق ، فقد أبطلوا أصل مذهبهم وهو قولهم : إن العقول لا سبيل إلى تصديقها.
__________________
(١) البراهمة : إحدى الطوائف الإلحادية القديمة : منشؤها فى الهند.