وطهارته فى أن يطهر عن حب الدنيا لقوله صلىاللهعليهوسلم : «حب الدنيا رأس كل خطيئة» (١) ، وهذا هو الداء الّذي أعجز الخلق.
ومن ظنّ أنه يقدر على الجمع بين التنعم فى الدنيا والحرص على ترتيب أسبابها ، وبين سعادة الآخرة فهو مغرور ؛ كمن يطمع فى الجمع بين الماء والنار ، لقول أمير المؤمنين رضى الله عنه : الدنيا والآخرة ضرّتان : مهما أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى. نعم! لو كان الإنسان يشتغل بالدنيا لأجل الدين ، لا لأجل شهوته ، كمن يصرف عمره إلى تدبير مصالح الخلق شفقة عليهم ، أو يصرف بعض أوقاته إلى كسب القوت ، ونيّته فى كسب القوت إلى أن يتقوى بتناوله على الطاعة والتقوى فهذا من عين الدين ، وعلى هذا المنهاج جرى حرص الأنبياء والخلفاء الراشدين فى أمور الدنيا.
ومهما ثبت أن الزاد هو التقوى ، وأن التقوى شرطها خلو القلب عن حبّ الدنيا ، فليكن الجهد فى تخليته عن حبّها ، وطريقه أن يعرف الإنسان عيب الدنيا وآفتها ، ويعرف شرف السعادة فى الدار الآخرة وزينتها ، ويعلم أن فى مراعاة الدنيا الحقيرة فوت الآخرة الخطيرة ، وأقلّ آفات الدنيا ، وهى مستيقنة لكل عاقل وجاهل ، أنها منقضية على القرب ، وسعادة الآخرة لا آخر لها ، هذا إذا سلمت الدنيا صافية عن الشوائب والأقذاء (٢) خالية من المؤذيات والمكدّرات ، وهيهات هيهات! فلم يسلم أحد فى الدنيا من طول الأذى ومقاساة الشدائد ، ومهما عرف تصرم الدنيا وتأبّد السعادة فى العقبى فليتأمل أنه لو شغف إنسان بشخص واستهتر (٣) به وصار لا يطيق فراقه ، وخيّر بين أن يعجل لقاءه ليلة واحدة وبين أن يصبر عنه تلك الليلة مجاهدا نفسه ثم يخلى بينه وبينه ألف ليلة ـ فكيف لا يسهل عليه الصبر ليلة واحدة لتوقع التلذذ بمشاهدته ألف ليلة! ولو استعجل تلك الليلة وعرض نفسه لعناء المفارقة
__________________
(١) رواه أحمد.
(٢) الأقذاء : الأوساخ ، مفرده : قذى.
(٣) استهتر به : تولع وتعلق.