وقد حكى أن هارون الرشيد قصد الفضيل بن عياض (١) ليلا مع العباس فى داره ، فلما وصل إلى بابه سمع قراءته وهو يقرأ : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الجاثية : ٢١] فقال هارون للعباس : «إن انتفعنا بشيء فبهذا». فدق العباس الباب وقال : أجب أمير المؤمنين ، قال : وما يعمل عندى أمير المؤمنين؟ فقال : أجب إمامك. ففتح الباب وأطفأ سراجه وجلس فى وسط البيت فى الظلمة ، فجعل هارون يطوف حتى وقعت عليه يده فقال : آه من يد ما ألينها إن نجت من عذاب الله يوم القيامة! فجلس وقال : «يا أمير المؤمنين! استعد لجواب الله تعالى يوم القيامة فإنك تحتاج أن تتقدم مع كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة». فجعل هارون يبكى. فقال العباس : اسكت فقد قتلت أمير المؤمنين. فقال : يا هامان (٢) تقتله أنت وأصحابك وتقول لى أنت قتلته؟! فقال هارون : ما سماك هامان إلّا وجعلنى فرعون ، فقال له هارون : هذا مهر والدتى ألف دينار تقبلها منى. فقال : يا أمير المؤمنين! لا جزاك الله إلا جزاءك ، أقول لك ردها على من أخذتها منه ، وتقول لى : خذها أنت؟! فقام وخرج.
وقد حكى عن محمد بن كعب القرظى (٣) أنه قال له عمر بن عبد العزيز : صف لى العدل! فقال : يا أمير المؤمنين! كن لصغير المسلمين أبا ، وللكبير منهم ابنا ، وللمثل أخا ؛ وعاقب كل واحد منهم بقدر ذنبه على قدر جسمه ؛ وإياك أن تضرب بغضبك سوطا واحدا فتدخل النار. وقد حكى عن الحسن (٤) أنه كتب إلى عمر بن
__________________
(١) أبو على الفضيل بن عياض التميمى المروزى ، زاهد وأحد العلماء الأعلام ، حدث عنه الشافعى ويحيى القطان وغيرهما ، ولد بسمرقند وقدم الكوفة شابا ثم جاور بمكة إلى أن مات سنة ١٨٧ ه.
(٢) هامان : كبير وزراء فرعون.
(٣) محمد بن كعب القرظى ، الكوفى المولد والمنشأ ، عاش فى مكة ؛ وروى عن كبار الصحابة ؛ ويقال إنه ولد فى حياة النبي ؛ وقال عنه الذهبى إنه كان كبير القدر ، ثقة ، موصوفا بالعلم والصلاح والورع. توفى فى سنة ١٠٨ ه ، وقيل فى سنة ١١٧ ه.
(٤) المقصود هو الحسن البصرى ، إمام أهل البصرة ولد سنة ٢١ ه ، وتوفى سنة ١١٠ ه.