سبيل التوسط فى الخصومات ، ثم ردوا إفشاء سرّ الدين إلى الخيالات والفراسات وهذا مسلك متين يتفطن له الذكى ، ويتبجح (١) به المشتغل بعلوم الشرع ، إذ يتيقن قطعا أن القائل قائلان : قائل يقول لا باطن لهذه الظواهر ولا تأويل لها ، فالتأويل باطل قطعا ؛ وقائل ينقدح له أن ذلك يمكن أن يكون كنايات عن بواطن ، لم يأذن الله لرسول الله صلىاللهعليهوسلم بأن يصرح بالبواطن ، بل ألزمه النطق بالظواهر ، فصار النطق بالباطن حراما باطلا وفجورا محظورا ومراغمة (٢) لواضع الشرع.
وهذه التأسيسية بالاتفاق فليس أهل عصرنا ـ مع بعد العهد بصاحب الشرع وانتشار الفساد واستيلاء الشهوات على الخلق وإعراض الكافة عن أمور الدين ـ أطوع للحق ولا أقبل للسر ولا آمن عليه ولا أحرى بفهمه والانتفاع به من أهل عصر رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهذه الأسرار والتأويلات إن كان لها حقيقة فقد أقفل أسماعهم عنها وألجم أفواه الناطقين عن اللهج بها ، ولنا فى رسول الله أسوة حسنة فى قوله وفعله ، فلا نقول إلا ما قال ولا نظهر إلا ما يظهر ، ونسكت عما سكت عنه ؛ وفى الأفعال نحافظ على العبادات ، بل على التهجد والنوافل وأنواع المجاهدات ، ونعلم أن ما لم يستغن عنه صاحب الشرع فنحن لا نستغنى عنه ولا ننخدع بقول الحمقى : إن نفوسنا إذا صفت بعلم الباطن استغنينا عن الأعمال الظاهرة ، بل نستهزئ بهذا القائل المغرور ونقول له : يا مسكين! أتعتقد أن نفسك أصفى وأزكى من نفس رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقد كان يقوم ليلا يصلى حتى تنتفخ (٣) قدماه ، أو يعتقد أنه كان يتنمس (٤) به على عائشة ليخيل إليها أن الدين حق ، وقد كان عالما ببطلانه؟ فإن اعتقدت الأول فما أحمقك ولا نزيدك عليه ، وإن اعتقدت الثانى فما أكفرك وأجحدك!! ولسنا نناظرك عليه ، لكنا نقول : إذا أخذنا بأسوإ الأحوال ، وقصرت
__________________
(١) يتبجح : (بجحه فتبجح) أى : فرحه ففرح.
(٢) مرغمة ؛ راغم فلانا : هجره وعاداه (مختار الصحاح).
(٣) وفى الحديث : تتورم.
(٤) يتنمس ؛ من تنمس الصائد : اتخذ بيتا يستتر فيه للصيد ، والمعنى المقصود هنا : يلبس ويدلس.