يجوز أن يكون جائز الوجود؟ قلنا : فى تلك المقدمات ، ما اشتمل على رفع هذا بالقوة ؛ فإن كل ما ثبت له الجواز فافتقاره إلى سبب ضرورى. فإن قدر السبب جائزا دخل فى الجملة التى سميناها كلا. ونحن نعلم بالضرورة أن كل الجائزات تفتقر إلى سبب ، فإن فرضت السبب جائزا فافرضه داخلا فى الجملة واطلب سببه ، إذ يستحيل أن يسند ذلك جائز آخر ، وهكذا إلى غير نهاية ، فإنه يكون عند ذلك جميع الأسباب والمسبّبات جملة جائزة ، ووصف الجواز يصدق على آحادها وعلى مجموعها ، فيفتقر المجموع إلى سبب خارج عن وصف الجواز المخرج ، وفيه ضرورة إثبات واجب الوجود ، ثم بعد ذلك نتكلم فى صفته ونبين أنه لا يجوز أن يكون واجب الوجود جسما ولا منطبعا فى جسم ولا متغيرا ولا متحيزا ـ إلى سائر ما يتبع ذلك ويثبت كل واحد منها بمقدمات لا شك فيها ، وتكون النتيجة بعد حصولها من المقدمات فى الظهور على ذوق المقدمات.
فإن قيل : العلوم الحسابية معترف بها لأنها ضرورية ، ولذلك لم يختلف فيها ؛ وأما النظريات العقلية فإن كانت مقدماتها كذلك فلم وقع الاختلاف فيها فوقوع الاختلاف فيها يقطع الأمان؟ ـ قلنا : هذا باطل من وجهين : (أحدهما) أن العلوم الحسابية اختلف فيها تفصيلا وجملة من وجهين : أحدهما أن الأوائل قد اختلفوا فى كثير من هيئات الفلك ومعرفة مقاديرها ، وهى مثبتة على مقدمات حسابية ، ولكن متى كثرت المقدمات وتسلسلت ضعف الذهن عن حفظها. فربما تزل واحدة عن الذهن فيغلط فى النتيجة ، وإمكان ذلك لا يشككنا فى الطريق ، نعم! الخلاف فيها أندر ، لأنها أظهر ، وفى العقليات أكثر ، لأنها أخفى وأستر. ومن النظريات ما ظهر فاتفقوا عليه ، وهو أن القديم لا يعدم ـ فهذه مسألة نظرية ولم يخالف فيها أحد البتة ، فلا فرق بين الحسابية والعقلية.
الثانى : أن من حصر مدارك العلوم فى الحواس وأنكر العلوم النظرية جملة ، الحسابية وغير الحسابية ، فخلاف هؤلاء : هل يشككنا فى علمنا بأن العلوم الحسابية صادقة حقيقة؟ فإن قلتم «نعم!» اتضح ميلكم عن الإنصاف وإن قلتم