«لا!» فلم وقع الخلاف فيه؟ فإن قلتم : خلافه لم يشككنا فى المقدمات فلم يشككنا فى النتيجة؟ فكذلك خلاف من خالفنا فى تفصيل ما عرفناه من الدلالة على ثبوت واجب الوجود لم يشككنا فى مقدمات الدليل فلم يشككنا فى النتيجة؟
والوجه الآخر من الجواب هو أن السوفسطائية (١) أنكروا الضروريات وخالفوا فيها وزعموا أنها خيالات لا أصل لها ، واستدلوا عليه بأن أظهرها المحسوسات ، ولا ثقة بقطع الإنسان بحسه ، ومهما شاهد إنسانا وكلمه فقوله أقطع بحضوره وكلامه ، فهو خطأ ، فلعله يراه فى المنام! فكم من منام يراه الإنسان ويقطع به ولا يتمارى مع نفسه فى تحقيقه ، ثم ينتبه على الفور فيبين أنه لا وجود له ، حتى يرى فى المنام يد نفسه مقطوعة ورأسه مفصولا ، ويقطع به ولا وجود لما يقطع به. ثم خلاف هؤلاء لا يشككنا فى الضروريات ، وكذلك النظريات فإنها بعد حصولها من المقدمات تبقى ضرورية لا يتمارى فيها كما فى الحسابيات.
وهذا كله كلام على من ينكر النظر جملة ، أما التعليمية فلا يقدرون على إطلاق القول بإبطال النظر جملة ، فإنهم يسوقون الأدلة والبراهين على إثبات التعليم ، ويرتّبون المقدمات كما حكيناه. فكيف ينكرون ذلك؟! فمن هنا قالوا : نظر العقل باطل ، فيقال : وبم عرفتم بطلانه وثبوت التعليم؟ أبنظر أم ضرورة؟ ولا بد أن يقال : بنظر : ومهما استدل بالخلاف فى النظريات على فساد النظريات فقابله بالخلاف من السوفسطائية فى الضروريات ، ولا فرق بين المقامين ، فإذا قالوا : وبم أمنت الخطأ؟ وكم من مرة اعتدت الشيء نظرا ثم بان خلافه؟! فيقال له : وبم عرفت حضورك بهذا البلد الّذي أنت فيه ، وكم من مرة اعتقدت نفسك ورأيتها ببلد آخر لم تكن فيه ، فبم تميز بين النوم واليقظة؟ وبم تأمن على نفسك فلعلك الآن فى هذا الكلام نائم؟! فإن زعم : أنى أدرك التفرقة ضرورة ؛ فيقال : وأنا أدركت التفرقة بين ما يجوز الغلط فيه من المقدمات ، وما لا يجوز أيضا ضرورة ولا فرق. وكذلك
__________________
(١) السوفسطائية أو السفسطائية قالوا بإنكار الحسيات والبديهيات.