ولكن لا يصح منكم استعمالها ، فإنا نقول : من الناس من أنكر حقائق الأشياء ، وزعم أنه لا حق ولا باطل ، وأن الأشياء تابعة للاعتقادات ، فما يعتقد فيه الوجود فهو موجود فى حق ذلك المعتقد ، وما يعتقد فيه العدم فهو معدوم فى حق المعتقد ، وهذه مقالة فرقة من فرق السوفسطائية ، وربما يقولون : الأشياء لا حقيقة لها ، فنقول : هل هذه المقدمة مقدمة يقطعون بها ، وأنتم ترونها فى المنام ولا حقيقة لها ، فبما ذا أمنتم الغلط فيها؟ وكم رأيتم أنفسكم فى المنام قاطعين بأمر لا حقيقة له! وما الّذي آمنكم من إصابة خصومكم وخطئكم؟ ولا نزال نورد عليهم ما يوردونه على أهل النظر للتشكيك فيه فلا يجدون فصلا ، فإن زعموا أنا نعرف ضرورة خطأ من يخالفنا من السوفسطائية ونعلم ضرورة صدق هذه المقدمة ، قيل لهم : فبم تنكرون على أهل النظر إذا ادعوا ذلك فى مذهبهم وفى تفريقهم بين ما غالطوا فيه وبين ما لم يغالطوا فيه ، وفرقهم بين أنفسهم ومخالفيهم؟ فإن زعموا أن ذلك يفتقر فيه إلى تأمل ، وما نحن فيه بديهى ـ فنقول : والحسابيات يحتاج فيها إلى أدق تأمل ، فإن غلط فى مسألة عرفتموها من الحساب رجل قصر نظره أو ضعف ذكاؤه ، فهل يشكككم ذلك فى أن العلوم الحسابية صادقة؟ فإن قلتم : لا! قيل : فهكذا حال النظار المحققين إذا خالفهم المخالفون ، وهذا ينبغى أن يكون عليهم فى كل مقام ، لأن تبجحهم الأكثر باختلاف النظار ، وأن ذلك ينبغى أن يسقط الأمان ، وخلافنا لهم لم يسقط أمانهم عن مقدماتهم التى نظموها ثم طمعوا مع ذلك أن يسقط أماننا عن النظريات بخلاف المخالف فيها ، وهذا من الطمع البارد والظن الركيك الّذي لا ينخدع بمثله عاقل.
أما «المقدمة الثانية» وهى قولهم : إذا ثبت فى كل واقعة حق وباطل فلا بد من معرفة الحق فيه.
فهذه مقدمة كاذبة ، إذ تسلموها جملة وفيها تفصيل. وهذه عادتهم فى التلبيس ، فلا يغفلن عنها المحصل ، فنقول : قول القائل : الحق لا بدّ من معرفته كقول