وأما (المقدمة الرابعة) وهى قولهم : إذا بطلت معالجته فى نفسه بطريق النظر ثبت وجوب التعلم من غيره ، فهذه صادقة على تقدير بطلان النظر وتسليم معرفة الحق ، ولكنّا لا نسلم بطلان النظر ، كما سبق وكما سنذكر فى إفساد شبههم المزخرفة لإبطال النظر ، ولا نسلم وجوب معرفة الحق ، لأن من جملته ما بنا مندوحة عنه ، والمحتاج إليه معرفة الصانع وصدق الرسول ، والناس قد اعتقدوها سماعا وتقليدا لأبويهم ، وفى ذلك ما يغنيهم فلا حاجة بهم إلى استيناف تعلّم من معلم معصوم ، فإن قنعوا بالتعليم من الأبوين فنحن نسلم حاجة الصبيان فى مبدأ النشوء إلى ذلك ولا ننكره. ولا مستروح لهم فى هذا التسليم.
ومن هذه المقدمة قولهم : إذا ثبتت الحاجة إلى المعلم فليكن المعلم معصوما ، وهذا متنازع فيه ، فإن المعلم إن كان يعلم ويذكر معه الدليل العقلى وينبه على وجه الدلالة ليتأمل المتعلم فيه بمبلغ عقله ويجوز له الثقة بمقتضى عقله بعد تنبيه المعلم ، فليكن المعلم ولو أفسق الخليقة فلم يحتاج إلى عصمته؟ وليس يتلقف المتعلم منه تقليد ما يتلقفه ، بل هو كالحساب لا بدّ من معرفة الحق فيه لمصالح المعاملات ، ولا يعرفه الإنسان من نفسه ويفتقر إلى معلم ولا يحتاج إلى عصمته لأنه ليس علما تقليديا ، بل هو برهانى ، وإن زعمتم أن المتعلم ليس يتعلم بالبرهان والدليل لأن ذلك يدركه بنظر عقله ، ولا ثقة بعقله مع ضعف عقول الخلق وتفاوتها فلذلك يحتاج إلى معصوم ؛ فهذا الآن حماقة ، لأنه إما يعرف عصمته ضرورة أو تقليدا ، ولا سبيل إلى دعوى شيء منه ، فلا بد أن يعرفه نظرا ، إذ لا شخص فى العالم يعرف عصمته ضرورة أو يوثق بقوله مهما قال أنا معصوم ، وإذا لم يعرف عصمته كيف يقلده! وإذا لم يثق بنظره كيف يعرف عصمته! فإن كان الأمر كما ذكرتموه فقد وقع الناس عن تعلم الحق وصار ذلك من المستحيلات فإذا قالوا : لا بدّ من تعلم الحق لا بطريق النظر ، كان كمن يقول : لا بدّ من الجمع بين البياض والسواد ، لأنه إن تعلم من غيره بتأمل دليل المسألة التى يتعلمها كان ناظرا مقتحما خطر الخطأ ، وإن قلده لكونه معصوما كان مدركا عصمته بالنظر فى دليل العصمة.