وإن لم يعتقد العصمة ويعلم ممن كان فقد رجع الأمر بالآخرة إلى ما استبعدوه وهو التعلم ممن لم تعرف عصمته وفيهم كثرة وأقوالهم متعارضة كما ذكروه ، وهذا لا مخلص عنه أبد الدهر.
وأما (المقدمة الخامسة) وهى قولهم : إن العالم لا يخلو إما أن يشتمل على ذلك المعصوم المضطر إليه ، أو يخلو عنه ؛ ولا وجه لتقدير خلو العالم عنه فإن ذلك يؤدى إلى تغطية الحق وذلك ظلم لا يليق بالحكمة ، فهو أيضا مقدمة فاسدة ، لأنا إن سلمنا سائر المقدمات وسلمنا ضرورة الخلق إلى معلم معصوم فنقول : لا يستحيل خلو العالم عنه ، بل عندنا يجوز خلو العالم عن النبي أبدا ، بل يجوز لله أن يعذب جميع خلقه وأن يضطرهم إلى النار ، فإنه بجميع ذلك متصرف فى ملكه بحسب إرادته ، ولا معترض على المالك من حيث العقل فى تصرفاته ، وإنما الظلم وضع الشيء فى غير موضعه ، والتصرف فى غير ما يستحقه المتصرف ، وهذا لا يتصور من الله ، فلعل العالم خال عنه على معنى أن الله لم يخلقه.
فإن قيل : مهما قدر الله على إرشاد الخلق إلى سبيل النجاة ونيل السعادات ببعثة الرسل ونصب الأئمة ولم يفعل ذلك كان إضرارا بالخلق مع انتفاء المنفعة عن الله تعالى فى هذا الإضرار ، وهو فى غاية القبح المناقض لأوصاف الكمال من حكمته وعدله ، ولا يليق ذلك بالصفات الإلهية.
قلنا : هذا الكلام مختل وغطاء ينخدع به العامى ويستحقره الغواص فى العلوم ، وقد انخدع به طوائف من المعتزلة ، واستقصاء وجه الرد عليهم فى فن الكلام (١) ، وأنا الآن مقتصر على مثال واحد يبين قطعا أن الله تعالى ليس يلزمه فى نعوت كماله أن يرعى مصلحة خلقه ، وهو : أنا نفرض ثلاثة من الأطفال مات أحدهم طفلا ، وبلغ أحدهم مسلما ثم مات ، وبلغ الآخر وكفر ثم مات ؛ فيجازى الله كل أحد بما يستحقه ، فيكون مقيما للعدل فينزل الّذي بلغ وكفر فى دركات
__________________
(١) فن الكلام : علم الكلام.