وقد خرج بالشيب عن حال الشباب فلم يفارق إلا العمر وحده. والبحتري إنما وجهت قسمته إلى من كانت له الحالتان جميعا من شباب وحياة ، فقال : لا بد أن يفارق الشباب بالشيب أو العمر بالموت. فأي اعتراض بمن هو على إحدى الحالتين دون الأخرى؟
فأما اعتذار الآمدي للبحتري بأن من مات شابا ما فارق العمر وإنما فارق الشباب وحده من حيث لم يطل عمره ولم يقل فيه معمر. فغلط فاحش ، لأن اسم العمر يتناول أيام الشباب كما يتناول ما زاد عليها ، ولهذا يقولون في الشاب والصبي لم يطل عمره أو كان عمره قصيرا ، فاسم العمر يتناول الطويل والقصير من الزمان حياة أحدنا. وإنما لا يقال في من عاش طرفة عين أن له عمرا ، لأن المتعارف من استعمال هذه اللفظة فيما تستمر الحياة له ضربا من الاستمرار قصر أو طال.
وليس يجري قولهم عمر ومعمر مجرى قولهم له عمر ، لأن لفظة عمر وما أشبهها تفيد التطاول ولا تكاد تستعمل إلا في السن ، لأنها تفيد من حيث التشديد التأكيد والزيادة في العمر ، ولفظة عمر بخلاف ذلك لأنها تستعمل في الطويل والقصير. ونظائر هذا البيت في معناه يجئ ذكرها عند الانتهاء إلى ما خرجته من شعري في الشيب.
* * *
وله من قصيدة :
يعيب الغانيات علي شيبي |
|
ومن لي أن أمتع بالمعيب |
ووجدي بالشباب وإن تقضي |
|
حميدا دون وجدي بالمشيب |
إنما جعل وجده بالشباب أقل من وجده بالمشيب ، لأنه يفارق الشباب بالشيب وصاحب الشيب في قيد الحياة على كل ولا يفارق الشيب إلا بالموت ، فالإيثار لمقامه أقوى.