هذا مما يملك العرب أسبابه فعلا وغير العرب قوة ، وكان هؤلاء على أهليات ثلاث ، فالعرب المجودون على أهلية ذاتية ، وغير المجودين منهم على أهلية حملية ، وغير العرب من ذوى الألسنة الأخرى على أهلية توثقية.
هذا من حيث أسلوب الكتاب الكريم وصوغه ، أما من حيث معناه وما تنطق به آياته من تشريع وهداية وتبيين ، فالجميع ـ عربا وعجما ـ يملكون أسبابه فعلا ، وهم فيه جميعا على أهلية بأقوى مراتبها ؛ وهى الذاتية ، لهذا كان هذا الشق من التحدى أجمع وأعم. فالقرآن الكريم معجز بشقيه كما قلت لك ، هذا الشق اللفظى وذاك الشق المعنوى ، بهما معا تحدى الرسول أمم الأرض كلها ، وهو وإن كان قد جمع بشقه الأول الناس عليه بأهليات تتفاوت شيئا ، فقد جمع بشقه الثانى الناس عليه بأهلية لا تفاوت فيها ولا تخلف.
والله تعالى أجل من أن يجعل كتابه الكريم لذلك الشق الأول ، أو ليكون لذلك الشق الأول النصيب الأوفر ، فقد أرسل رسوله معلما ، وهاديا ، وكان هذا الكتاب الكريم لهذا التعليم وتلك الهداية ، وكان هذان هما رسالة محمد صلىاللهعليهوسلم.
وإذا كان محمد صلىاللهعليهوسلم عربيّا بين عرب لا يتقبلون إلا ما كان فصيحا كان لا بد من أن يساق إليهم كلام الله تعالى فصيحا ليقبلوا عليه ، وكان لا بد من أن يساق إليهم كلام أفصح مما يعهدون كى لا يصرفوا بغيره مما هو فى مثل درجة فصاحته عنه ، لهذا كان الإفصاح فى القرآن ، ولهذا جاء كلام الله تعالى يمهد بإعجازه اللفظى لإعجازه المعنوى.
إذن فالوقوف عند الشق الأول وحده من إعجاز القرآن تعطيل لشقه الآخر ، فالقرآن معجز بهما كما هو معجز بكل منهما ، وفى عرضهما تعريف بالإعجاز على وجهة المراد من القرآن وتعريف برسالة الرسول التى حملها القرآن ، إذ هو لم يجئ بهذا الإعجاز اللفظى فحسب ، وإنما جاء بالرسالة أولا وزفها فى هذا الثوب الذى يليق بها ، وكما كانت الرسالة معجزة كان هذا الثوب معجزا.