والغريب أن نجد الهمم قد انصرفت إلى هذا الشق الأول أكثر مما انصرفت إلى الشق الثانى ، وأنهم منذ بدأ الخطابى أبو سليمان محمد بن إبراهيم (٣٨٨ ه) فألف رسالته : «بيان إعجاز القرآن» والمؤلفون فى إثره على الطريق صانعون ما صنع ، فنرى من بعده الباقلانى أبا بكر محمد بر الطيب (٤٠٣ ه) ثم أبا الحسن عبد الجبار (٤١٥ ه) ثم الجرجانى عبد القاهر بن عبد الرحمن (٤٧١ ه) ولكل منهم كتاب أو جزء من كتاب فى الإعجاز اللفظى ، ولم يبعد عنهم الزمخشرى محمود بن عمر (٥٣٨ ه) فى تفسيره. ولا عياض بن موسى (٥٤٤ ه) فى كتابه «الشفا فى التعريف بحقوق المصطفى» ولا ابن عطية عبد الحق بن أبى بكر (٥٤٦ ه) فى تفسيره المعروف باسم «الجامع المحرر» وحتى الذين تناولوا هذا الموضوع من المتأخرين.
ولا نرى من هؤلاء المتأخرين من جنح للرأى الذى قلناه من قبل غير محمد فريد وجدى ، فهو يضم إلى الجانب اللفظى هذا الجانب المعنوى ، وأعنى به الرسالة التى تضمنها القرآن الكريم.
لهذا كان علينا أن نلتفت إلى رسالة القرآن السامية بقدر ما نلتفت إلى أسلوبه الحكيم.
فإعجاز القرآن أسلوبا إن ملك العرب له الأهلية الذاتية ، فغير العرب وهم كثيرون يملئون العالم إلا أقله ، لا يملكون هذه الأهلية الذاتية ، وإن ملكوا الأهلية الحملية ، أو الأهلية التوثقية ، وما أحب لهؤلاء أن يجتمعوا على القرآن وإعجازه عن طريق اثنتين ، وإنما أحب لهم أن يجتمعوا على القرآن وإعجازه عن طريق ثلاث أهليات ، أولاها الذاتية ، أحب لهؤلاء أن يعرفوا رسالة القرآن من القرآن ، وأحب لهم أن يتبينوا إعجاز هذه الرسالة. وهم فى هذه الأهلية والعرب سواء.
من أجل ذلك أحب للمؤلفين فى إعجاز القرآن أن يفسحوا لصفحاتهم أن تمتلئ بهذا ، وأحب لهم أن تجرى أقلامهم فى هذا الشق بعد ما أجرى الكثيرون ممن سبقونا أقلامهم فى الشق الآخر ، ولم يعد لنا مزيد نقوله بعدهم.