يهوي إلى بئر أملا في وجه لتخليصه وهرول غاية قدرته لإنقاذه فحسن ذلك منه وإن لم تجر به عادته وكان شكورا عليه لصواب غرضه فيه.
ورجل دخل الماء في أذنه فاجتهد في إخراجه بأن وقف على إحدى رجليه وأمال رأسه إلى ناحيتها وقفز عدة دفعات عليها ليخرج الماء من أذنه ويأمن ما يخشاه من ضرره فلا ينقصه ذلك من فضله ولا يزيله عن رتبته وعقله بل يكون فيما فعله حكيما وبدفع المضرة عنه عليما.
وكالقاضي الذي دخلت ذبابة في ثوبه وحصلت بينه وبين جسمه وهو بين شهوده وفي مجلس قضائه وحكمه فأضجرته بأذيتها وأقلقته بثقلها وأخذ يتحرك لها أنواع الحركة ويتلوى منها إلى كل جهة ويكثر من توقفه واضطرابه ويطيل تطلعه في ثيابه والناس يشاهدون أفعاله ولا يعرفون فلما دام أمرها وطال لبثها حسن منه النهوض عن مجلسه والخلو لإزالتها بنفسه فالجاهل من سارع إلى سوء الظن به وقدم على استنقاصه في فعله والعاقل الذي يعلم أن أمرا قد دهمه وشيئا ألجأه إلى ما ظهر منه واضطره ونحو هذا من الأفعال العجيبة والأحوال الطريفة الذي يتفق لذوي العقول السليمة والآراء الصحيحة فيقع منهم أكثر مما ذكرت وفوق ما وصفت ويكون الواجب تصويبهم فيه وإن لم يعلم الأسباب الداعية لهم فيه.
قصة وقعت مع المؤلف
ولقد اضطررت يوما إلى الحضور مع قوم من المتصوفين فلما ضمنا المجلس أخذوا فيما جرت به عادتهم من الغناء والرقص فاعتزلتهم إلى إحدى الجهات وانضاف إلي رجل من أهل الفضل والديانات فتحادثنا ذم الصوفية على ما يصنعون وفساد أغراضهم فيما يتأولون وقبح ما يفعلون من الحركة والقيام وما يدخلون على أنفسهم في الرقص من الآلام فكان الرجل لقولي مصوبا وللقوم في فعلهم مخطئا ولم نزل كذلك إلى أن غنى مغني القوم هذه الأبيات :
وما أم مكحول المدامع ترتعي |
|
ترى الأنس وحشا وهي تأنس بالوحش |