يمتنع في الآية وصفهم بابتداعها مجازا إذ وصف الله تعالى بابتداعها حقيقة ولا يستحيل ذلك عند المعتزلة ، والرهبانية لغة تعبد الراهب فهي من أفعال القلوب ، وما ذكره المفسرون : أن معناها ما كان يفعله الرهبان من التزام الصوامع واعتزال النساء ، وغير ذلك ، إنما هي أشياء أحدثها الرهبان من عند أنفسهم ، فسر بعضهم الرهبانية بالمعنى الذي ذكره المفسرون ، وقدر حذف مضاف ، وحب رهبانية ، ولا يلزم على هذا أن يكون ما جعله الله في القلب موصوفا بأنهم ابتدعوه ، وما ذكره أبو علي من حمل الآية على الاشتغال أولى ، لأن حذف الفعل أولى من حذف المضاف ، إذا الفعل مفسر ، ولا مفسر للمضاف في اللفظ ، وأورد على أبي علي على أنه يفسر في الاشتغال إلا بما يعمل ، والصفة لا تعمل في الموصوف ، وأجاب الشلوبين : بأن مراده الصفة المعنوية ، لا الصناعية ، وهذا لا يراد عنه غير لازم لأبي علي ، لأنه لم يجعل ابتداعها صفة في حال نصب رهبانية ، بفعل مضمر ، بل على تقدير جعل رهبانية معطوفة على رأفة ، ابن سلامة : البدعة إحداث على لم يكن ثابتا والتزام ما لم يلزم بدعة انتهى ، إن قلت : هل يؤخذ أن من ابتداء النافلة قائما أنه لا يكون له إتمامها جالسا اختيارا لأن الله تعالى ذم هؤلاء على عدم الوفاء بالأمر الملتزم ، قلت : لم يذمهم على ذلك ، بل رتبه على أنهم مقصرون بفعلهم المرجوح دون الأرجح.
قوله تعالى : (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ).
إن أريد به الحكم الشرعي بالإيتاء فهو حقيقة ، وإن أريد به نيلهم ذلك بالعقل ، فيكون في معنى المستقبل مثل أتى الله ، فإن قلت : إيتاء الأجر يشمل الدنيا والآخرة ، قلت : أوتوا في الدنيا بعض الأجر لا كله ، وقد أخبر عنهم أنهم أتوا أجرهم كله ، فلا بد من جعله في معنى المستقبل ، فإن قلت : لم يؤتوا كل أجرهم بل بعضه ، لأنهم في الآية إخبار عن قوم مضوا وانقطعوا ، فقد أتوا أجرهم فيما مضى ، قلت : لم يؤتوا كل أجرهم بل بعضه ، لأنهم لم يدخلوا الجنة ، بل نالوا أوائل النعيم ، فلم يستكملوا أجرهم ، وقول الزمخشري : إن الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد موت عيسى عليهالسلام ، فقاتلوهم ثلاث مرات ، قد يقال : إنه غلط في قوله بعد موت عيسى ، لكن وقع في أواخره في جامع العتبية في ترجمة ابن عيسى ، قال مالك : كان عيسى عليهالسلام يقول : يا ابن الثلاثين مضيت الثلاثون فما تنتظر ، قال : فمات وهو ابن ثلاث وثلاثون سنة ، ابن رشد : هذا مشكل مع قوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) [سورة النساء : ١٥٧] ، وقوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [سورة النساء : ١٥٧ ـ ١٥٨] ، قال : لكن يحتمل أن يكون لم يمت رفع إلى السماء ، ونسب إليه الموت باعتبار رفعه من الأرض ، ويحتمل أنه مات حقيقة ، ورفعت روحه ،