الحقيقة هو من أفعال القلوب إذا فعل لوجه وجوبه ، فأمّا ما يكره عليه من إظهار الشهادتين فليس بدين حقيقة ، كما أنّ من أكره على كلمة الكفر لم يكن كافرا. والمراد : الدين المعروف وهو الإسلام ودين الله الّذي ارتضاه ... (١).
قال الأستاذ محمّد عبده : كان معهودا عن بعض الملل ـ لا سيّما النصارى ـ حمل الناس على الدخول في دينهم بالإكراه (٢). وهذه ألصق بالسياسة منها بالدين! لأنّ الإيمان هو أصل الدين ، وجوهره عبارة عن إذعان النفس ، ويستحيل أن يكون الإذعان بالإلزام والإكراه ، وإنّما يكون بالبيان والبرهان ، ولذلك قال تعالى ـ بعد نفي الإكراه ـ : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) أي قد ظهر أنّ في هذا الدين الرشد والهدى والفلاح والسير في الجادّة على نور ، وأنّ ما خالفه من الملل والنحل ، على غيّ وضلال (٣).
وقال سيّدنا العلّامة الطباطبائي : هذه الآية تنفي أن يكون الدين إجباريّا ، ذلك أنّ الدين عبارة عن سلسلة من معارف علميّة ، تتبعها سلسلة من الأعمال الخارجيّة. ويجمعها : اعتقادات ، والاعتقادات والإيمان من الأمور القلبيّة الّتي لا يحكم فيها الإكراه والإجبار ، فإنّ الإكراه إنّما يؤثّر في الأعمال الظاهريّة والأفعال والحركات البدنيّة المادّيّة ، وأمّا الاعتقاد القلبي فله علل وأسباب أخرى قلبيّة من سنخ الاعتقاد والإدراك. ومن المحال أن ينتج الجهل علما ، أو تولّد المقدّمات غير العلميّة تصديقا علميّا.
فقوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ...). إن كانت قضيّة إخباريّة حاكية عن حال التكوين ، أنتج
__________________
(١) مجمع البيان ٢ : ١٦٣.
(٢) كانت المسيحيّة ـ آخر الديانات قبل الإسلام ـ قد فرضت فرضا بالحديد والنار ووسائل التعذيب والقمع الّتي زاولتها الدولة الرومانيّة ، بمجرّد دخول الإمبراطور قسطنطين في المسيحيّة ، بنفس الوحشة والقسوة الّتي زاولتها الدولة الرومانيّة من قبل ضدّ المسيحيّبن القلائل من رعاياها الّذين اعتنقوا المسيحيّة اقتناعا وحبّا! ولم تقتصر وسائل القمع والقهر على الّذين لم يدخلوا في المسيحيّة ، بل إنّها ظلّت تتناول في ضراوة المسيحيّين أنفسهم الّذين لم يدخلوا في مذهب الدولة ، وخالفوها في بعض الاعتقاد بطبيعة المسيح! فقد جاء الإسلام عقب ذلك ، جاء ليعلن ـ في أوّل ما يعلن ـ هذا المبدأ العظيم الكبير : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ). فياله من مبدء فخيم. (في ظلال القرآن ١ : ٤٢٥).
(٣) المنار ٣ : ٣٧.