إنّ المقصود من الشرك في هذه الآيات ـ ليس فقط أنّ هؤلاء إذا وصلوا إلى البرّ أو نجوا عكفوا على عبادة الأوثان ، بل المراد ما هو أوسع من ذلك فانّهم إذا نجوا عادوا إلى نسيان الحالة السابقة ، والتجأوا إلى الأسباب الماديّة متصوّرين أنّها أسباب مستقلّة تمدّهم في إدامة الحياة من دون استمداد من الله سبحانه وناظرين إليها بعين العلل المستقلة غير المعتمدة على الله ، ولا شك أنّ النظر إلى الأسباب العادية من نافذة : الاستقلال ، هو أيضاً شرك يجب الاجتناب عنه ، وهي نقطة الافتراق بين المدرسة الإلهية والمدرسة المادية ، ولو طالعت هذه الآيات المتعلّقة بالشرك والتوحيد بروح علمية لوجدت كيف أنّ القرآن الكريم يصرّ على أنّه ليست في عالم الوجود قدرة في مصاف القدرة الإلهية ، ولا إرادة في عرض تلك الإرادة.
ويرشدك إلى هذا أنّ القرآن يعتقد بأنّه سبحانه هو الهادي في ظلمات البرّ والبحر ، وهو مرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته ومنزل الغيث ، ويقول :
(أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (النمل ـ ٦٣).
مع أنّ البشر كان ولا يزال يستفيد من الأسباب والوسائل الطبيعية كالنجوم والبوصلات ويهتدي بها وبغيرها من الأدوات التكنولوجية في أسفاره البرية والبحرية ، وليس هذا إلّا لأجل أنّ سببية الأسباب بتسبيب من الله سبحانه.
كما أنّ الرياح والأمطار في هذه الطبيعة ينشئان نتيجة سلسلة طويلة من تفاعل العلل الطبيعية التي تتسبب في وجود ظاهرة الرياح ، أو الأمطار ، ولكن القرآن مع ذلك يقول :
(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) (الأعراف ـ ٥٧).
(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) (الشورى ـ ٢٨).