كانوا يصرون على قولهم ذلك ، لا لدفع القول بالمعاد فحسب ، بل لاَن القول بالمعاد والدعوة اليه كان يستتبع تطبيق الحياة الدنيوية على الحياة بنحو العبودية ، وطاعة قوانين دينية مشتملة على مواد وأحكام تشريعية : من العبادات والمعاملات والسياسات .
وبالجملة القول بالمعاد كان يستلزم التدين بالدين ، واتباع أحكامه في الحياة ، ومراقبة البعث والمعاد في جميع الأحوال والاعمال ، فردوا ذلك ببناء الحياة الاجتماعية على مجرد الحياة الدنيا من غير نظر إِلى ما ورائها .
وكذا قوله تعالى : « إِن الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ » ـ ٣٠ ، فبيّن تعالى أنهم يبنون الحياة على الظن والجهل ، والله سبحانه يدعو إِلى دار السلام ، ويبني دينه على الحق والعلم ، والرسول يدعو الناس إِلى ما يحييهم ، قال تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ » الانفال ـ ٢٤ ، وهذه الحياة هي التي يشير اليها قوله تعالى : « أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا » الانعام ـ ١٢٢ ، وقال تعالى : « أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ » الرعد ـ ١٩ ، وقال تعالى : « قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ » يوسف ـ ١٠٨ ، وقال تعالى : « هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ » الزمر ـ ٩ ، وقال تعالى : « يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ » البقرة ـ ١٢٩ ، إِلى غير ذلك ، والقرآن مشحون بمدح العلم والدعوة اليه والحث به ، وناهيك فيه انه يسمي العهد السابق على ظهور الاسلام عهد الجاهلية كما قيل .
فما أبعد من الانصاف قول من يقول : ان الدين
مبني على التقليد والجهل مضاد للعلم ومباهت له ، وهؤلاء القائلون أُناس اشتغلوا بالعلوم الطبيعية والاجتماعية
فلم يجدوا فيها ما يثبت شيئاً مما وراء الطبيعة ، فظنوا عدم الاثبات إثباتاً للعدم ، وقد
أخطأوا في ظنهم ، وخبطوا في حكمهم ، ثم نظروا الى ما في أيدي امثالهم من الناس المتهوسين من أُمور يسمونه باسم الدين ، ولا حقيقة لها غير الشرك ، والله بريء من المشركين ورسوله ، ثم نظروا الى الدعوة الدينية بالتعبد والطاعة فحسبوها تقليداً وقد أخطأوا