وعلى هذا فالمسألة حقيقية والحجة التي ذكرناها في البيان السابق واستفدناها من الكتاب العزيز حجة برهانية .
توضيح ذلك : ان هذه الصور للنفس الانسانية الواقعة في طريق الاستكمال ، والانسان نوع حقيقي بمعنى أنه موجود حقيقي مبدأ لآثار وجودية عينية ، والعلل الفياضة للموجودات أعطتها قابلية النيل الى كمالها الاخير في وجودها بشهادة التجربة والبرهان ، والواجب تعالى تام الافاضة فيجب أن يكون هناك افاضة لكل نفس مستعدة بما يلائم استعدادها من الكمال ، ويتبدل به قوتها الى الفعلية ، من الكمال الذي يسمى سعادة ان كانت ذات صفات حسنة وملكات فاضلة معتدلة أو الذي يسمى شقاوة ان كانت ذات رذائل وهيئات ردية .
واذ كانت هذه الملكات والصور حاصلة لها من طريق الافعال الاختيارية المنبعثة عن اعتقاد الصلاح والفساد ، والخوف والرجاء ، والرغبة الى المنافع ، والرهبة من المضار ، وجب أن تكون هذه الافاضة أيضاً متعلقة بالدعوة الدينية بالتبشير والانذار والتخويف والتطميع لتكون شفاء للمؤمنين فيكملوا به في سعادتهم ، وخساراً للظالمين فيكملوا به في شقاوتهم ، والدعوة تحتاج الى داع يقدم بها وهو النبي المبعوث من عنده تعالى .
فان قلت : كفى في الدعوة ما يدعو اليه العقل من اتباع الانسان للحق في الاعتقاد والعمل ، وسلوكه طريق الفضيلة والتقوى ، فأي حاجة الى بعث الانبياء .
قلت : العقل الذي يدعو إِلى ذلك ، ويأمر به هو العقل العملي الحاكم بالحسن والقبح ، دون العقل النظري المدرك لحقائق الأشياء كما مر بيانه سابقاً ، والعقل العملي يأخذ مقدمات حكمه من الاحساسات الباطنة ، والاحساسات التي هي بالفعل في الانسان في بادي حاله هي إِحساسات القوى الشهوية والغضبية ، وأما القوة الناطقة القدسية فهي بالقوة ، وقد مر أن هذا الاحساس الفطري يدعو الى الاختلاف ، فهذه التي بالفعل لا تدع الانسان يخرج من القوة إِلى الفعل كما هو مشهود من حال الانسان فكل قوم أو فرد فقد التربية الصالحة عاد عما قليل إِلى التوحش والبربرية مع وجود العقل فيهم وحكم الفطرة عليهم ، فلا غناء عن تأييد إِلهي بنبوة تؤيد العقل .