فإِن التعقل والتفكر والحب والبغض والخوف وأمثال ذلك وإِن أمكن أن ينسبه أحد إِلى القلب باعتقاد أنه العضو المدرك في البدن على ما ربما يعتقده العامة كما ينسب السمع إِلى الاذن والأبصار إِلى العين والذوق إِلى اللسان ، لكن الكسب والاكتساب مما لا ينسب إِلا إِلى الإِنسان البتة .
ونظير هذه الآية قوله تعالى : « فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ » البقرة ـ ٢٨٣ ، وقوله تعالى : « وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ » ق ـ ٣٣ .
والظاهر : أن الانسان لما شاهد نفسه وسائر أصناف الحيوان وتأمل فيها ورأى أن الشعور والادراك ربما بطل أو غاب عن الحيوان بإِغماء أو صرع أو نحوهما ، والحياة المدلول عليها بحركة القلب ونبضانه باقية بخلاف القلب قطع على أن مبدء الحياة هو القلب ، أي ان الروح التي يعتقدها في الحيوان أول تعلقها بالقلب وإِن سرت منه إِلى جميع أعضاء الحياة ، وإِن الآثار والخواص الروحية كالاحساسات الوجدانية مثل الشعور والإرادة والحب والبغض والرجاء والخوف وأمثال ذلك كلها للقلب بعناية أنه أول متعلق للروح ، وهذا لا ينافي كون كل عضو من الاعضاء مبدئاً لفعله الذي يختص به كالدماغ للفكر والعين للإبصار والسمع للوعي والرئة للتنفس ونحو ذلك ، فإنها جميعاً بمنزلة الآلات التي يفعل بها الافعال المحتاجة إِلى توسيط الآلة .
وربما يؤيد هذا النظر : ما وجده التجارب العلمي أن الطيور لا تموت بفقد الدماغ إِلا انها تفقد الادراك ولا تشعر بشيء وتبقى على تلك الحال حتى تموت بفقد المواد الغذائية ووقوف القلب عن ضربانه .
وربما أيده أيضاً : ان الأبحاث العلمية الطبيعية لم توفق حتى اليوم لتشخيص المصدر الذي يصدر عنه الاحكام البدنية اعني عرش الاوامر التي يمتثلها الاعضاء الفعالة في البدن الانساني ، إِذ لا ريب انها في عين التشتت والتفرق من حيث انفسها وافعالها مجتمعة تحت لواء واحد منقادة لامير واحد ، وحدة حقيقية .
ولا ينبغي ان يتوهم ان ذلك كان ناشئاً
عن الغفلة عن امر الدماغ وما يخصه من الفعل الادراكي ، فإِن الانسان قد تنبه لما عليه الرأس من الاهمية منذ أقدم
الازمنة ، والشاهد عليه ما نرى في جميع الامم والملل على اختلاف ألسنتهم من تسمية مبدء الحكم