الانسان في المدنية والحضارة ، يوجب التغير في الوسائل التي ترفع حاجته الحيوية ، والتبدل فيها دائماً مع بقاء الاسماء فالاسماء لا تزال تتبدل مصاديق معانيها مع بقاء الاغراض المرتبة ، وذلك كما أن السراج في أول ما تنبه الانسان لإمكان رفع بعض الحوائج به كان مثلاً شيئاً من الدهن أو الدهنيات مع فتيلة متصلة بها في ظرف يحفظها فكانت تشتعل الفتيلة للاستضائة بالليل ، فركبته الصناعة على هذه الهيئة أولاً وسماه الانسان بالسراج ، ثم لم يزل يتحول طوراً بعد طور ، ويركب طبقاً عن طبق ، حتى انتهت إِلى هذه السرج الكهربائية التي لا يوجد فيها ومعها شيء من أجزاء السراج المصنوع أولا ، الموضوع بحذائه لفظ السراج من دهن وفتيلة وقصعة خزفية أو فلزية ، ومع ذلك نحن نطلق لفظ السراج عليها وعلى سائر أقسام السراج على حد سواء ، ومن غير عناية ، وليس ذلك إِلا ان الغاية والغرض من السراج أعني الاثر المقصود منه المترتب على المصنوع أولاً يترتب بعينه على المصنوع أخيراً من غير تفاوت ، وهو الاستضائة ، ونحن لا نقصد شيئاً من وسائل الحياة ولا نعرفها إِلا بغايتها في الحياة وأثرها المترتب ، فحقيقة السراج ما يستضاء بضوئه بالليل ، ومع بقاء هذه الخاصة والاثر يبقى حقيقة السراج ويبقى اسم السراج على حقيقة معناه من غير تغير وتبدل ، وان تغير الشكل أحياناً أو الكيفية أو الكمية أو أصل أجزاء الذات كما عرفت في المثال ، وعلى هذا فالملاك في بقاء المعنى الحقيقي وعدم بقائه بقاء الاثر المطلوب من الشيء على ما كان من غير تغير ، وقلما يوجد اليوم في الامور المصنوعة ووسائل الحياة ـ وهي أُلوف والوف ـ شيء لم يتغير ذاته عما حدث عليه أولاً ، غير أن بقاء الاثر والخاصة أبقى لكل واحد منها اسمه الأول الذي وضع له . وفي اللغات شيء كثير من القسم الاول وهو اللفظ المنقول من معنى محسوس إِلى معنى معقول يعثر عليه المتتبع البصير .
فقد تحصل أن استعمال الكلام والقول فيما مر مع فرض بقاء الاثر والخاصة استعمال حقيقي لا مجازي .
فظهر من جميع ما بيناه : ان إِطلاق الكلام والقول في مورده تعالى يحكي عن أمر حقيقي واقعي ، وانه من مراتب المعنى الحقيقي لهاتين اللفظتين وإِن اختلف من حيث المصداق مع ما عندنا من مصداق الكلام ، كما ان سائر الألفاظ المشتركة الاستعمال بيننا وبينه تعالى كالحياة والعلم والارادة والاعطاء كذلك .
واعلم : ان القول في معنى رفع الدرجات
من قوله تعالى : ورفع بعضهم درجات ،