ذلك أن هذه الامور التي أخبر الله سبحانه بإِيجادها وفعلها عند الطاعة والمعصية إِنما هي امور حقيقية واقعية من غير تجوز غير أنها لا تفارق أعمالنا وعقائدنا بل هي لوازمها التي في باطنها ، وقد مر الكلام في ذلك ، وهذا لا ينافي كون قوله تعالى : يخرجهم من الظلمات الى النور ، وقوله تعالى : يخرجونهم من النور الى الظلمات ، كنايتين عن هداية الله سبحانه وإِضلال الطاغوت ، لما تقدم في بحث الكلام أن النزاع في مقامين : أحدهما كون النور والظلمة وما شابههما ذا حقيقة في هذه النشأة أو مجرد تشبيه لا حقيقة له وثانيهما : أنه على تقدير تسليم أن لها حقائق وواقعيات هل استعمال اللفظ كالنور مثلاً في الحقيقة التي هي حقيقة الهداية حقيقة أو مجاز ؟ وعلى أي حال فالجملتان أعني : قوله تعالى : يخرجهم من الظلمات الى النور ، وقوله تعالى : يخرجونهم من النور الى الظلمات كنايتان عن الهداية والاضلال ، وإِلا لزم أن يكون لكل من المؤمن والكافر نور وظلمة معاً ، فإِن لازم إِخراج المؤمن من الظلمة الى النور أن يكون قبل الايمان في ظلمة وبالعكس في الكافر ، فعامة المؤمنين والكفار ـ وهم الذين عاشوا مؤمنين فقط أو عاشوا كفاراً فقط ـ إِذا بلغوا مقام التكليف فإِن آمنوا خرجوا من الظلمات الى النور ، وإِن كفروا خرجوا من النور الى الظلمات ، فهم قبل ذلك في نور وظلمة معاً وهذا كما ترى .
لكن يمكن أن يقال : إِن الانسان بحسب خلقته على نور الفطرة ، هو نور إِجمالي يقبل التفصيل ، وأما بالنسبة الى المعارف الحقة والاعمال الصالحة تفصيلاً فهو في ظلمة بعد لعدم تبين أمره ، والنور والظلمة بهذا المعنى لا يتنافيان ولا يمتنع اجتماعهما ، والمؤمن بإِيمانه يخرج من هذه الظلمة الى نور المعارف والطاعات تفصيلاً ، والكافر بكفره يخرج من نور الفطرة الى ظلمات الكفر والمعاصي التفصيلية ، والاتيان بالنور مفرداً وبالظلمات جمعاً في قوله تعالى : يخرجهم من الظلمات الى النور ، وقوله تعالى : يخرجونهم من النور الى الظلمات ، للاشارة الى ان الحق واحد لا اختلاف فيه كما ان الباطل متشتت مختلف لا وحدة فيه ، قال تعالى : « وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ » الانعام ـ ١٥٣ .
( بحث روائي )
في الدر المنثور أخرج أبو داود والنسائي
وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في