وهنا حدّثت ابنها صلىاللهعليهوآله وقد طال بها الانتظار ، للقيام برحلة يقومان بها إلىٰ يثرب الطيبة ، كي يزور قبر الأب الحبيب عبدالله ، وسرّه أن يصحب أُمّه المباركة في زيارتهما لمثوىٰ أبيه عليهالسلام ، وأن يتعرف في الوقت نفسه علىٰ أخوال أبيه المقيمين في يثرب ، وكانوا ذوي شرف وجاه عريق ، ولعلّه سمع صلىاللهعليهوآله من أُمّه أكثر من مرّة وهي تقصّ عليه صلىاللهعليهوآله حديث (أبي وهب بن عمرو) خال جدّه عبد المطّلب ، وانه كيف تصدّىٰ لقريش حين أجمعت علىٰ تجديد بناء الكعبة فقال مخاطباً :
يا معشر قريش ، لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلّا طيّباً ، ولا تدخلوا فيه مهر بغي ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد من الناس ! (١).
وكان الجو صيفاً والشمس محرقة تلهب صخور مكّة وتصهر رمالها حيث بدأت السيدة (آمنة) تتهيّأ للرحلة الطويلة والشاقّة ، تجتاز بها الأميال المائتين التي تفصل مكّة عن يثرب حيث يرقد في ثراها زوجها الحبيب (عبد الله عليهالسلام) الذي ودّعها منذ سبع سنين ، ولم تكن تجهل مشقّة السفر عبر الصحراء ، ولكن شوقها إلىٰ زيارة يثرب حيث قبر زوجها كان أقوىٰ من عقبات السفر ، وألقت السيدة آمنة نظرة الوداع علىٰ دار عرسها مع زوجها الحبيب عبد الله والتي وضعت فيه ولدها المبارك محمّد صلىاللهعليهوآله.
وسار الركب حتىٰ توارت جدران مكّة خلف الجبال الشُّم ، وتوجّه الراحلون شمالاً ، واستمرّت الرحلة حتىٰ شارفت علىٰ النهاية ، فجمعت السيدة آمنة نفسها ، وأقبلت علىٰ ولدها المبارك تحدّثه من جديد عن أبيه ، وتغريه بأن يتطلّع إلىٰ المدينة البيضاء التي بدأت تتكشّف خلف جبل أُحد حيث ينبسط
_____________
(١) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٦٦ ـ ١٦٧.