نعم ، يمكن أن يقال في تتميم الوجه الثالث ، ما حاصله : إنّ الإطلاق البدلي في قولنا : ( أكرم فقيرا ) ، حاله حال الترخيص الشرعي ، كما إذا قيل : ( يجوز إكرام الفقير ) ، فإنّهما يشتركان في نفي وجود المقتضي للتقييد بحصّة خاصّة من الفقير ، بمعنى أنّ قولنا : ( يجوز إكرام الفقير ) معناه عدم وجود مقتضي الإلزام بإكرام الفقير سواء العادل أم الفاسق ، من ناحية كونه فقيرا ، فإنّ عنوان الفقر وحده ليس فيه مقتض للإلزام لا بالوجوب ولا بالحرمة.
وهكذا قولنا : ( أكرم فقيرا ) ، فإنّ معناه أنّه لا يوجد مقتضي للإلزام بالتقيّد في حصّة خاصّة من الفقير ؛ لأنّ العرف يفهم أنّه يجب إكرام فقير ما ، وأمّا تقيّده بالعادل أو بالفاسق فهذا لا يوجد له أي مقتض ، ممّا يعني أنّ الحصّة الخاصّة من الفقير وهي ( الفقير الفاسق ) لا يوجد أي مقتض للإلزام والتقيّد بإكرامه ، بل يجوز إكرامه كما يجوز عدم إكرامه ؛ لأنّ المطلوب إكرام فقير ما لا خصوص هذا أو خصوص ذاك.
وحينئذ نقول : إنّ دليل الإلزام في قولنا : ( لا تكرم الفاسق ) يثبت أنّه في مورد الاجتماع أي في الحصّة الخاصّة وهي ( الفقير الفاسق ) يوجد المقتضي للإلزام التحريمي من جهة كونه فاسقا ، وهذا لا يتنافي مع ما ثبت بخطاب ( أكرم فقيرا ) من عدم وجود المقتضي للإلزام الوجوبي من ناحية تقيّده بهذه الحصّة بالذات ، فإنّه في هذه الحصّة لا يوجد أي مقتض للإلزام الوجوبي فيها.
ولذلك يتقدّم خطاب ( لا تكرم الفاسق ) على خطاب ( أكرم فقيرا ) في مادّة الاجتماع ، من جهة أنّ الأوّل يثبت وجود المقتضي للتحريم ، بينما الثاني لا يثبت المقتضي للوجوب فيه بعنوانه الخاصّ (١).
__________________
(١) وكأنّ السيّد الشهيد يقبل هذا لأنّه لم يعلّق عليه هنا ، إلا أنّه غير تامّ أيضا ؛ لأن جعل الإطلاق البدلي كالترخيص الشرعي لا يمكن المساعدة عليه عرفا ، إذ العرف يرى الفرق بينهما بوضوح ؛ لأنّ جعل الإطلاق البدلي فيه إلزام بخلاف الترخيص فإنّه لا إلزام فيه.
ولو تمّ ذلك للزم عدم إمكان التمسّك بالإطلاق البدلي لنفي أيّة خصوصيّة يشكّ في دخالتها في موضوع الحكم ؛ لأنّه على هذا التقدير يكون لسانه لسان نفي الاقتضاء فقط ، فإذا شكّ في دخالة قيد العدالة فيه لم يمكن نفيها بالإطلاق البدلي ؛ لأنّه ليس ناظرا إلا إلى نفي الاقتضاء لا إلى نفي الخصوصيّات في الطبيعة. ومن هنا يحتاج نفيها إلى دليل آخر كالأصل العملي مثلا ، وهذا لا يلتزم به أحد ؛ لأنّه الإطلاق البدلي ينفي الخصوصيّات كالشمولي تماما لأنّهما على حدّ واحد ؛ لأنّ مقدّمات الحكمة تجري فيهما معا وبها تنتفي الخصوصيّات ، ممّا يعني أنّ النظر فيه إلى موضوع الحكم وكون الطبيعة من دون قيد ، وأمّا الاقتضاء فهو ليس مدلولا للإطلاق ، بل هو حكم انتزاعي عقلي في مقام الامتثال وهو خارج عن المعارضة موضوعا.