لم يكن فيه جنبة الإحراز التعبّدي والكاشفيّة وإلغاء الشكّ ، بل حتّى ولو كان الأصل المسبّبي فيه هذه الخصوصيّات أيضا ، كشف ذلك عن أنّ النكتة في التقديم هي كون الأصل السببي يعالج المشكلة في مرتبة سابقة على الأصل المسبّبي ، فإنّه لمّا كان يعالج المشكلة في مرحلة السبب ثبوتا فالعرف يرى إثباتا أنّه متقدّم على الأصل المسبّبي الذي يعالج المشكلة ثبوتا في مرحلة المسبّب ، فتكون السببيّة بنظر العرف ملاكا للتقديم في مقام الجمع العرفي بين الدليلين المتعارضين ؛ وذلك لأنّ العرف يرى أنّ ما يكون سببا واقعا فهو يرفع مشكلة المسبّب.
وبنظره المسامحي يرى أنّ ما يكون سببا ظاهرا فهو يرفع مشكلة المسبّب أيضا ، إذ لا يرى فرقا بينهما من ناحية السببيّة وإن كان بالدقّة يوجد الفرق ، لأنّ السببيّة الواقعيّة ثبوتيّة بينما الظاهريّة إثباتيّة.
وهنا يقال هكذا : فإنّ تقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي كان لأجل السببيّة الواقعيّة ، فإنّ الأوّل يحرز الواقع إحرازا تعبّديّا فهو يحرز السبب الواقعي ، بينما أصالة الطهارة التي هي أصل سببي في المثال المتقدّم لا تحرز الواقع وإنّما تثبت المعذّريّة فقط ، ولكنّها تثبت المعذّريّة بإثبات السبب ظاهرا وهو طهارة الماء ، فكانت السببيّة فيها ظاهريّة إثباتيّة ، وحيث إنّ العرف لا يلتفت إلى المطالب العقليّة والتفرقة الدقيقة وإنّما يكتفي بالنظر إلى السببيّة الموجودة فيهما ، فيحكم بتقديم الأصل السببي على المسبّبي حال تعارضهما لنكتة السببيّة (١).
__________________
(١) ويمكننا أن نضيف شاهدا على ذلك : وهو أنّ المشهور ذهب إلى تقديم الأصل السببي على المسبّبي دائما للحكومة حتّى ولو كانا متوافقين ؛ لأن الأوّل يرفع ويلغي موضوع الثاني ، مع أنّ بعض روايات زرارة الدالّة على الاستصحاب قد أجرت الاستصحاب المسبّبي مع وجود الاستصحاب السببي الموافق له ، حيث قال : وإلا فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ جوابا على سؤال السائل : ( الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ ).
فهنا يوجد استصحاب الوضوء السابق ويوجد استصحاب عدم النوم أيضا ، والوضوء بقاء مسبّب عن عدم النوم وعدم النوم سبب لبقاء الوضوء ، وهنا كلاهما يثبتان عدم وجوب الوضوء مجدّدا ولكنّ الإمام أجرى الاستصحاب في المسبّب دون السبب ، وهذا معناه أنّ الحكومة لو كانت هي الملاك لم يكن استصحاب المسبّب جاريا أصلا لارتفاع موضوعه ...... باستصحاب السبب ، فإجراؤه يكشف عن كون الملاك ليس هو الحكومة ، بل هو ما ذكر من القرينيّة النوعيّة وهي إنّما تجري في حالة المخالفة والمعارضة بين الأصلين ، وأمّا في حال التوافق بينهما فلا معنى للجمع العرفي ؛ لأنّه فرع التعارض ولا تعارض بينهما حال الموافقة كما هو واضح.