وتأخذ منها الاحمامات وفواضل الانهار ترمى في البحر ، ومدى الانهار فرسخ ونصف ، وفي تحت ذلك الجبل بساتين المدينة وأشجارها ، ومزارعها عند العيون وأثمار تلك الاشجار لا يرى أطيب منها ولا أعذب ، ويرعى الذئب والنعجة عيانا ولو قصد قاصد لتخلية دابة في زرع غيره لمارعته ، ولا قطعت قطعة حمله ولقد شاهدت السباع والهوام رابضة في غيض تلك المدينة ، وبنو آدم يمرون عليها فلا تؤذيهم.
فلما قدمنا المدينة وارسى المركب فيها ، وما كان صحبنا من الشوابي و الذوابيح من المباركة بشريعة الزاهرة ، صعدنا فرأينا مدينة عظيمة عيناء كثيرة الخلق ، وسيعة الربقة ، وفيها الاسواق الكثيرة ، والمعاش العظيم ، وترد إليها الخلق من البر والبحر ، وأهلها على أحسن قاعدة ، لا يكون على وجه الارض من الامم والاديان مثلهم وأمانتهم ، حتى أن المتعيش بسوق يرده إليه من يبتاع منه حاجة إما بالوزن أو بالذراع فيبايعه عليها ثم يقول : أيا هذا زن لنفسك واذرع لنفسك.
فهذه صورة مبايعاتهم ، ولا يسمع بينهم لغو المقال ، ولا السفه ولا النميمة ، ولا يسب بعضهم بعضا ، وإذا نادى المؤذن الاذان ، لا يتخلف منهم متخلف ذكرا كان أو أنثى. إلا ويسعى إلى الصلاة ، حتى إذا قضيت الصلاة للوقت المفروض ، رجع كل منهم إلى بيته حتى يكون وقت الصلاة الاخرى فيكون الحال كما كانت.
فلما وصلنا المدينة ، وأرسينا بمشرعتها ، أمرونا بالحضور إلى عند السلطان فحضرنا داره ، ودخلنا إليه إلى بستان صور في وسطه قبة من فصب ، والسلطان في تلك القبة ، وعنده جماعة وفي باب القبة ساقية تجري.
فوافينا القبة ، وقد أفام المؤذن الصلاة ، فلم يكن أسرع من أن امتلا البستان بالناس ، وأقيمت الصلاة ، فصلى بهم جماعة ، فلا والله لم تنظر عيني أخضع منه لله ، ولا ألين جانبا لرعيته ، فصلى من صلى مأموما.
فلما قضيت الصلاة التفت إلينا وقال : هؤلاء القادمون؟ قلنا : نعم ، وكانت تحية الناس له أو مخاطبتهم له « يا ابن صاحب الامر » فقال : على خير مقدم.