الأعين من حالاتهم ، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى ، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى.
ولو كانت الأنبياء أهل قوّة لا تُرام ، وعزّة لا تُضام ، وملك تمدّ نحوه أعناق الرجال ، وتشدّ إليه عقد الرحال ، لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار ، وأبعد لهم في الاستكبار ، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم ، أو رغبة مائلة بهم ، فكانت النيات مشتركة ، والحسنات مقتسمة.
ولكنّ الله سبحانه أراد أن يكون الاتباع لرسله ، والتصديق بكتبه ، والخشوع لوجهه ، والاستكانة لأمره ، والاستسلام لطاعته ، أُموراً له خاصة ، لا تشوبها من غيرها شائبة ، وكلّما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل.
ألا ترون انّ الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضرّ ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً ، ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً ، وأقلّ نتائق (١) الدنيا مدراً (٢) ، وأضيق بطون الأودية قطراً ، بين جبال خشنة ، ورمال دمثة (٣) ، وعيون وشلة (٤) ، وقرى منقطعة ، لا يزكو بها خفّ ، ولا حافر ، ولا ظِلف.
ثم أمر آدم عليهالسلام وولده أن يثنوا أعطافهم (٥) نحوه ، فصار مثابة لمنتجع (٦)
__________________
١ ـ النتائق جمع نتيقة : البقاع المرتفعة.
٢ ـ المدر : قطع الطين اليابس.
٣ ـ دمثة : لينة يصعب السير فيها والاستنبات منها.
٤ ـ وشلة كفرحة : قليلة الماء.
٥ ـ ثنى عطفه إليه : مال وتوجه إليه.
٦ ـ منتجع الاسفار : محلّ الفائدة منها.