أسفارهم ، وغاية لملقى رحالهم ، تهوى إليه ثمار الأفئدة من مفاوز قفار سحيقة (١) ، مهاوي (٢) وفجاج (٣) عميقة ، وجزائر بحار منقطعة ، حتى يهزّوا مناكبهم ذللاً يهلّلون لله حوله ، ويرملون على أقدامهم شعثاً غبراً له.
قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم ، وشوّهوا بأعفاء الشعور محاسن خَلقهم ، ابتلاء عظيماً ، وامتحاناً شديداً ، واختباراً مبيناً ، وتمحيصاً بليغاً ، جعله الله سبباً لرحمته ، ووصلة إلى جنّته.
ولو أراد سبحانه ان يضع بيته الحرام ، ومشاعره العظام ، بين جنات وأنهار وسهل وقرار ، جمّ الأشجار ، داني الثمار ، ملتفّ البنى ، متصل القرى ، بين برّة (٤) سمراء ، وروضة خضراء ، وأرياف (٥) محدقة ، وعراص مغدقة (٦) ، ورياض ناظرة ، وطرق عامرة ، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء.
ولو كان الأساس المحمول عليها ، والأحجار المرفوع بها ، بين زمرّدةٍ خضراء ، وياقوتة حمراء ، ونور وضياء ، لخفّفت ذلك مصارعة الشك في الصدور ، ولوضع مجاهدة ابليس عن القلوب ، ولنقى معتلج الريب من الناس.
ولكنّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره ، اخراجاً للتكبّر من قلوبهم ، واسكاناً للتذلّل في نفوسهم ، وليجلع ذلك أبواباً فتحاً إلى فضله ، وأسباباً ذللا لعفوه.
__________________
١ ـ السحيقة : البعيدة.
٢ ـ المهاوي : منخفضات الأراضي.
٣ ـ الفجاج : الطرق الواسعة بين الجبال.
٤ ـ البرّة : الحنطة ، والسمراء أجودها.
٥ ـ الارياف : الاراضي الخصبة.
٦ ـ المغدقة : من أغدق المطر كثر ماؤه.