بَيْدَ أن الفيلسوف لم يتمكن من مواكبة تطور العلوم واتساع رقعتها واستيعاب مسائلها وفروعها ، فبعث ذلك على انحسار دوره وتقلص نشاطه في حدود بحث الإلهيات بالمعنى الأعم والأخص وتسمى بالعلم الكلي والفلسفة الأولى (١) ؛ والأعم منها يبحث عن أحكام الموجودات بشكل عام ولا يختص بموجود دون آخر بينما تتناول الإلهيات بالمعنى الأخص إثبات وجود الله الأقدس وصفاته جل وعلا.
وبذلك يتضح أن موضوع علم الفلسفة هو : «الموجود بما هو موجود» ، أي أنها تتناول دراسة الموجود بشكل عام ، لتحدد أحكامه بغض النظر عن خصوصياته. فمثلاً : إن البحث عن العلّة والمعلول لا يختص بموجود دون غيره ، بل هو شامل لكل موجود؛ بينما البحث عن تركيب الماء ودرجة انجماده وغليانه وبقية خواصه ، بحث عن الموجود بما هو ماء ، له وجوده الخاص. وأما الإلهيات بالمعنى الأخص فإنها تبحث عن وجود الله تعالى وصفاته وتختص به ولا تبحث عما سواها.
ودراسة الموجود بشكل عام التي تتناول الموجودات مجردها وماديها ، يُطلق عليها اسم «الميتافيزيقا» وقد تصور البعض خطأ ، أنها تختص بالموجودات المجردة غير المادية ، إلا أن الصحيح شمولها للموجودات المادية والمجردة على
__________________
١. والوجه في تسميتها بهذا الاسم ، هو أنها تُعدّ في مقدمة كل العلوم؛ إذ أنها تبحث عن وجود الله الأقدس وصفاته الحسنى ، كما أنها تقوم بإثبات موضوعات العلوم ، فما لم يثبت في الفلسفة الوجود المادي الخارج عن حدود الذهن لا يتسنى للفيزيائي أن يبحث عن خواص الأجسام ، ولا للكيمياوي أن يبحث عن طبيعة تفاعلات العناصر وهكذا. بل إن جميع العلوم مدينة إلى الفلسفة في مبادئها التصديقية ، كمبدأ عدم التناقض وأصل العلية وقاعدة الانسجام ، وهي من مباحث ومسائل الفلسفة ، ومن أجل ما تقدم يكون للفلسفة ، شرف التقدم على بقية العلوم ، ولا نبالغ إن قلنا أنها أم العلوم.