(وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) أي ويقتلون الحكماء الذين يرشدون الناس إلى العدل في كل شىء ويجعلونه روح الفضائل وقوامها.
ومرتبة هؤلاء في الإرشاد تلى مرتبة الأنبياء ، وأثرهم في ذلك يلى أثرهم ، لأن جميع الناس ينتفعون بهدي الأنبياء بقدر استعدادهم ، والحكماء ينتفع بهم الخاصة المستعدون لفهم العلوم العالية ، والنظريات العويصة.
انظر إلى الفارق بين دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وقد جبّت وثنية العرب في الزمن القليل ، ودعوة فلاسفة اليونان إلى التوحيد وقد عجزت عن مثل ذلك أو ما يقار به ، إذ لم يستجب لهم فيها في الزمن الطويل إلا القليل من طلاب الفلسفة.
وسر هذا أن دعوة النبي يؤيدها الله بروح من عنده ، وتتعدد مظاهرها باعتبار المخاطبين فقد جاء في الحديث «أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم» وأشارت إلى ذلك الآية الكريمة : «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» فالحكمة يدعى بها العقلاء وأرباب الفكر والنظر ، والموعظة يدعى بها العامة وذوو الأحلام الضعيفة ، والجدل بالتي هى أحسن لمن هم فى المرتبة الوسطى ، لم يرتقوا إلى ذروة الحكماء ، ولم ينزلوا إلى الدرجة السفلى ، فلا ينقادون إلى الموعظة كسابقيهم ، فلا بد لهم من الحسنى في الجدل ، ومخاطبتهم على قدر عقولهم.
والحكماء ليس لديهم إلا طريق واحد في الدعوة إلى الحق والفضيلة ، والمحور الذي تدور عليه هو حب العدل والإنصاف في الأفكار والأخلاق والآداب ، سواء أكان الحكيم الذي يدعو ينتسب إلى دين أم لا ، إذ هو إنما يبنى دعوته على الإقناع من طريق العقل بحسب ما وصل إليه علمه ، مع الإخلاص والصدق.
فالإقدام على قتل مثل هؤلاء جناية على العقل ، ومقت للعدل وكفى بذلك جرما وأعظم به خسرا.