وقد أثر عن السلف الصالح أنهم كانوا إذا أحبوا شيئا جعلوه لله تعالى.
روى البخاري ومسلم عن أنس رضى الله عنه قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار نخلا بالمدينة ، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء (موضع) وكانت مستقبلة المسجد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء طيب فيها ، فلما نزلت (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قال أبو طلحة يا رسول الله : إن أحبّ أموالى إلىّ بيرحاء ، وإنها صدقة لله تعالى أرجو برّها وذخرها عند الله تعالى ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى ، فقال عليه السلام : بخ بخ (كلمة تقال عند الرضا والإعجاب بالشيء) ذاك مال رابح ، وقد سمعت ما قلت ، وإنى أرى أن تجعلها في الأقربين ، فقال أفعل يا رسول الله ، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبنى عمه. وفي رواية لمسلم : فجعلها بين حسان ابن ثابت وأبيّ بن كعب.
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن المنكدر قال : لما نزلت هذه الآية جاء زيد ابن حارثة بفرس يقال لها سبل لم يكن له مال أحب إليه منها فقال هى صدقة ، فقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمل عليها ابنه أسامة ، فكأن زيدا وجد في نفسه (حزن) فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه قال : أما إن الله قد قبلها.
فهذا الأثر وما قبله دلائل واضحات على حسن السياسة الدينية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة ما يختلج في القلوب ، فقد رأى أن أبا طلحة وزيدا قد خرجا عن أحب أموالهما إليهما بعاطفة الدين ، فجعل ذلك في الأقربين ليثبّت قلوبهما ويكمل إيمانهما ، ولا يجعل للشيطان سبيلا ينفذ به إلى ما بين الجوانح فيندمان إذا هما رأيا أموالهما فى أيدى الغرباء ، إذ كثيرا ما يفارق المرء شيئا محبوبا لديه باختياره لعاطفة الدين ، أو للجود به على غيره ، ثم لا يلبث إلا قليلا حتى يعاوده الحنين إليه ، ومن ثمّ كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر عمّال الصدقة باتقاء كرائم الأموال ، والبعد عنها حين جباية الصدقات.
وهناك من الشواهد ما يدل على هذا أيضا ، فقد أخرج عبد بن حميد عن ابن عمر