عالم الأرض نظر فى ملكوت السموات فرأى كوكبا عظيما ممتازا عن سائر الكواكب بإشراقه وبريقه ولمعانه ، وهو : (كوكب المشترى) الذي هو أعظم آلهة بعض عبّاد الكواكب من قدماء اليونان والرومان ، وكان قوم إبراهيم أئمتهم فى هذه العبادة وهم لهم مقتدون ـ فلما رآه.
(قالَ هذا رَبِّي) أي قال هذا فى مقام المناظرة والحجاج لقومه تمهيدا للإنكار عليهم فحكى مقالتهم أوّلا ليستدرجهم إلى سماع حجته على بطلانها ، فأوهمهم أولا أنه موافق لهم على زعمهم ، ثم كرّ عليه بالنقض بانيا دليله على الحس والعقل.
(فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أي فلما غرب هذا الكوكب واحتجب قال لا أحب ما يغيب ويحتجب ، إذ من كان سليم الفطرة لا يختار لنفسه حب شىء يغيب عنه ويوحشه فقده فما بالك بحب العبادة الذي هو أعلى أنواع الحب وأكمله ، لأنه قد هدت إليه الفطرة وأرشد إليه العقل السليم ، فلا ينبغى أن يكون إلا للرب الحاضر القريب ، السميع البصير الرقيب ، الذي لا يغيب ولا يغفل ، ولا ينسى ولا يذهل ، الظاهر فى كل شىء بآياته :
وفى كل شىء له آية |
|
تدل على أنه واحد |
والباطن فى كل شىء بحكمته ولطفه الخفي : «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» وقد جاء فى الحديث فى وصف الإحسان «أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
والخلاصة ـ إن فى هذا تعريضا بجهل قومه فى عبادة الكواكب ، إذ يعبدون ما يحتجب عنهم ولا يدرى شيئا من أمر عبادتهم وهذا قريب من قوله لأبيه : «لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً».
وقد احتج إبراهيم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال ، لأن الأفول انتقال مع خفاء واحتجاب وهو مما ينافى الربوبية.