من بعضها إلى بعض أي من الأدون إلى الأرفع ومن الأخسّ إلى الأشرف؛ فما لم يستوف جميع المراتب التي يكون للنشأة الأولى من هذه النشآت الثلاث أعنى الطبيعيّة والنفسيّة والعقلية لم يتخطّ إلى النشأة الثانية ، وهكذا من الثانية إلى الثالثة؛ فالإنسان من مبدإ طفوليته إلى أوان أشدّه الصورى إنسان بشرى طبيعى وهو الإنسان الأوّل فيتدرج في هذا الوجود ويتصفّى ويتلطف حتى يحصل له كون أخروي نفسانى وهو بحسبه إنسان نفسانى وهو الإنسان الثانى وله أعضاء نفسانية لا تحتاج في وجودها النفسانى إلى مواضع متفرقة كما إذا ظهرت في المادة البدنية حين وجودها الطبيعى فإنّ الحواسّ في هذا الوجود متفرقة يحتاج إلى مواضع مختلفة ليس موضع البصر موضع السمع ولا موضع الذوق موضع الشم ، وبعضها أكثر تجزيا من البعض وأشدّ تعلقا بالمادّة كالقوّة اللامسة وهي أوّل درجات الحيوانية ولذا لا يخلو منها حيوان وإن كان في غاية الخسّة والدناءة قريبا من افق النباتية كالأصداف والخراطين؛ وهذا بخلاف وجودها النفسانى فإنّه أشدّ جمعيّة من هذا الوجود فتصير الحواس كلّها هناك حسا واحدا مشتركا ، وهكذا قياس القوى المحركة؛ ففي هذا العالم بعضها في الكبد ، وبعضها في الدماغ ، وبعضها في القلب ، وبعضها في الأنثيين ، وبعضها في غير ذلك الأعضاء ، وفي العالم النفساني مجتمعة؛ ثمّ إذا انتقل من الوجود النفساني إلى الوجود العقلى وصار عقلا بالفعل وذلك في قليل من أفراد الناس فهو بحسب ذلك الوجود إنسان عقلى وله أعضاء عقلية وهو الإنسان الثالث (ج ٤ ، ص ١٢١ ، ط ١).
والحاصل أنّ البرهان باق على قوّته ، دال على أنّ النفس المدركة للمعانى الكلية المعقولة على مراتبها بحسب الشدة والضعف والسعة والضيق ليس بجسم ولا جسمانية؛ وإليه يئول كثير من الأدلّة التي أقاموا على تجرّدها كما يأتى التحقيق في ذلك. وانّما قيدنا المعانى الكلية المعقولة بقولنا على مراتبها بحسب الشدة والضعف لشمول البرهان كلا القسمين من المعقولات أعنى العقليات المتصورة المشتركة بين الكثيرين ، والعقليات التي هي ذوات مرسلة ومفارقات نورية كما عرفت في التحقيق