غير خفى أنّ لازم كلامه رحمه اللّه انّ الذي يمكن أن يدركه الإنسان إدراكا على ثلاثة أقسام : المفهوم الجزئي المدرك بحسّ أو خيال ، والكلى بالمعنى الذي ذكره ، والمطلق المبهم الذي يظهر في الذهن بنوع من الاعتبار؛ ولا شك أنّ القوم انّما يعنون بالمفهوم الكلى هذا القسم الثالث ، ويقيمون البرهان على تجرّده وتجرّد النفس التي تدركه؛ وعلى هذا فلازم كلامه قدّس سرّه منع التجرّد العقلى لهذا النوع من المفاهيم التي يسمّونها كلية في المنطق والفلسفة ، وهي تصدق بنفسها على كثيرين مع تجرّدها عن اللوازم الشخصية ، ولا شيء من الأمور المادية والخيالية على هذا الوصف ولا سبيل إلى منع وجودها في أذهاننا ، ولا إلى منع أن يكون هذا الاعتبار في نفس الأمر؛ فالحق أنّ إدراكها على مالها من الوصف يوجب التجرّد ، غير انّ التجرّد على أنحاء مختلفة من القوّة والضعف ، والذي ذكره قدّس سرّه هو التجرّد التام أو ما يقرب منه انتهى.
وبالجملة أنّ قوله في آخر كلامه : «ونحن لا نسلّم أنّ كل واحد ...» غير مرضى عند من له حظّ من الإلف بالمعانى الكلية والمفاهيم العقلية ، نعم انّ الغبي الذي لا يعود عليه الفكر برادّة بل ينبتّ جميع أفكاره عن مطالبه فهو ممن لا يمكنه ملاحظة الاعتبارات المذكورة ونظائرها؛ وكأنّه قدّس سرّه يريد بقوله ذلك ، الغبىّ من أفراد الناس ولا ننكر ذلك كما لا ننكر أنّ الواصل من آحاد الناس إلى الوجود العقلى قليل جدّا على حذو ما أفاده بقلمه الرفيع في الفصل الرابع من الباب التاسع من الأسفار من أنّ :
الأشياء ذوات الطبائع متوجهة إلى كمالاتها وغاياتها ، وانّ الإنسان من جملة الأكوان الطبيعية مختص بأنّ واحدا شخصيا من نوعه قد يكون مترقيا من أدنى المراتب إلى أعلاها مع انحفاظ هويته الشخصية المستمرّة على نعت اتصال ، وليس سائر الطبائع النوعية على هذا المنهاج لأنّ المادّة الحاملة لصورتها تنفصل عنها إلى صورة أخرى من نوع آخر منقطعة عن الأولى فلا يتحفظ في سائر التوجهات الطبيعيّة هوياتها الشخصية بل ولا النوعية أيضا بخلاف الشخص الإنساني إذ ربما يكون له أكوان متعددة بعضها طبيعى وبعضها نفساني وبعضها عقلى؛ ولكل من هذه الأكوان الثلاثة أيضا مراتب غير متناهية بحسب الوهم والفرض لا بحسب الانفصال الخارجي ينتقل