وبالجملة أنّ المعانى ليست بمنحصرة في الجزئيات ، والحجة ناطقة بأنّ الصور العلمية تحصل للنفس بسبب من الأسباب كالكفر والتعليم ونحوها ، ثمّ قد تذهل النفس عنها بحدوث نسيان أو مرض أو اشتغال بأمور ، وبعد إزالة المانع تريها حاضرة عندها من غير استيناف ذلك السبب بل هي مكتفية بذاتها فيها. فالحجة على صورة القياس من الشكل الثانى تمام لا ريب فيها وهيأته أن يقال : النفس مكتفية بذاتها وباطن ذاتها في استرجاع صورها المكسوبة العلمية ، ولا شيء من المنطبعات بمكتف كذلك ، فالنفس ليست بمنطبعة. فالقول بأنّ قوى النفس جسمانية لا تزاحمها ، وإن كان الحكم بكونها غير جسمانية تؤكّدها. على أنّ الحق أنّ الوهم عقل ساقط ، وسلطان البرهان على ذلك في العين الإحدى والثلاثين من كتابنا العيون؛ وأنّ البحث عن سهو النفس ونسيانها ثمّ تذكّرها ينجرّ إلى التحقيق في نفس الأمر فراجع العين الرابعة والثلاثين ، وأنّ الصور العلمية حتى المحسوسات بالذات هي لدى النفس كليات مجرّدة على التحقيق في العيون الأخرى من ذلك الكتاب.
بقي في المقام نقل ما أفاده صاحب الأسفار في تقرير الحجة قال :
الحجة الحادية عشرة أنّ كل صورة أو صفة حصلت في الجسم بسبب من الأسباب فإذا زالت عنه وبقي فارغا عنها فيحتاج في استرجاعها إلى استيناف سبب أو سببيته كالماء إذا تسخن بسبب كالنار مثلا ثمّ إذا زالت عنه السخونة لا يمكن عودها إليه إلّا بسبب جديد ، وهذا بخلاف النفس في إدراكاتها فإنها كثيرا ما يحدث فيها صورة علمية بسبب فكر أو تعليم معلّم ثمّ يزول عنها تلك الصورة عند الذهول أمكنها استرجاع تلك الصورة لذاتها من غير استيناف ذلك السبب.
وبالجملة النفس من شأنها أن تكون مكتفية بذاتها في كمالاتها ، ولا شيء من الجسم مكتف بذاته فالنفس تعالت عن أن تكون جرمية.
لا يقال : الجسم أيضا قد يعود إليه صفته التي كانت فيه بعد زوالها من غير استيناف سبب جديد كالماء إذا زالت عنه البرودة بورود السخونة التي هي ضدّها ثمّ يستعيد طبعه البرودة التي كانت له.