وتفرّدوا بالنظر والبحث عن حقائق الأشياء ، انكشف لهم علم الغيب ، وعلموا بما يخفيه الناس في نفوسهم ، واطّلعوا على سرائر الخلق.
فإذا كان هذا هكذا ، والنفس بعد مرتبطة بهذا البدن في هذا العالم المظلم الذي لو لا نور الشمس لكان في غاية الظلمة ، فكيف إذا تجرّدت هذه النفس وفارقت البدن ، وصارت في عالم الحق الذي فيه نور البارى سبحانه فأمّا من كان غرضه في هذا العالم التلذذ بالمآكل والمشارب المستحيلة إلى الجيف ، وكان أيضا غرضه في لذة الجماع فلا سبيل لنفسه العقلية إلى معرفة هذه الأشياء الشريفة ، ولا يمكنها الوصول إلى التشبّه بالبارى سبحانه. ولقد صدق أفلاطون في هذا القياس وأصاب به البرهان الصحيح.
أقول : صدر ما نقلناه من رسائل الكندى من أنّ النفس تمنع الغضب والشهوة عن فعلهما ، دليل على أنّ المانع غير الممنوع فحسب ولا يدلّ على تجرّد المانع عن المادة والماديات الطبيعية. والوجه الأعم مأخذا من ذلك ما قلنا في صدر العين الخامسة من كتابنا عيون مسائل النفس ، وشرحه : سرح العيون في شرح العيون من أنّ الدليل على مغايرتها له انّك لا تجعل طبيعتك حاكمة عقلك إلخ.
وأما ما نقله عن أفلاطن الإلهى فهو صريح على تجرّدها العقلانى ، وكونها من صقع العالم الربوبى. والتمثيل بنور الشمس وما أفاد حوله كلام في غاية الكمال.
ثمّ ما أفاد الكندى من أنّ جوهر النفس من جوهر البارى عزّ وجلّ كقياس ضياء الشمس من الشمس ، فله شأن ينبغى أن ينظر فيه نظر دقّة وتحقيق وتفكير.
والمروى في روضة الجنان عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام انّه قال : «يفصل نورنا من نور ربنا كشعاع الشمس من الشمس».
وفي الكافي بإسناده عن أبى بصير قال سمت أبا عبد الله عليه السّلام يقول :
المؤمن أخ المؤمن كالجسد الواحد ، إن اشتكى شيئا منه وجد الم ذلك في سائر جسده وأرواحهما من روح واحدة ، وانّ روح المؤمن لأشد اتصالا بروح اللّه من اتصال شعاع الشمس بها. (ج ٢ ، من المعرب ، ص ١٣٣).