دقّ حتى تطيع (١) الله فيمن عصاه فيك ، وتعتزل الصديق والعدو فعند ذلك تتفجر ينابيع الحكمة من قلبك ، وتدع الهوى بنور الإيمان عليك.
والمنزلة الثانية : ترك الفضول من القول والمقال والمثال حتى ترحم من ظلمك ، وتصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، فعند ذلك تقاد بحلاوة ـ يعني ـ طاعة الله عزوجل ، وبعزم الإرادة ، وترتبط بحبل الطاعة.
والمنزلة الثالثة : ترك العلو والرئاسة واختيار التواضع والذلّة ، حتى تصير مثل مملوك لسيده ، وبامراج النظر تطلعت للنفس إلى فضول الشهوات فأظلم القلب ولم ير جميلا فيرغب فيه ، ولا قبيحا فيأنف منه ، وبضبط النظر ذلّت النفس عن فضول الشهوات ، فانفتح القلب فأبصر جميلا يرغب فيه ، وانكشف العقل فأبصر.
قلت : يا راهب فأيما العقل؟ قال : أوّله المعرفة وفرعه العلم وثمرته السنة ، قلت :
يا راهب متى يجد العبد حلاوة الإيمان والأنس بالله؟ قال : إذا صفا الودّ ، وجادت المعاملة ، قلت : يا راهب متى يصفو الود؟ قال : إذا اجتمعت الهموم فصارت في الطاعة. قلت : يا راهب متى تخلص المعاملة؟ قال : إذا اجتمعت الهموم فصارت واحدة.
قلت : يا راهب عظني وأوجز. قال : لا يراك الله حيث يكره. قلت : زدني من الشرح لأفهم. قال : كل حلالا ، وارقد حيث شئت. قلت : يا راهب لقد تحلّيت بالوحدة. قال : يا فتى ، لو ذقت طعم الوحدة لاستوحشت لها (٢) من نفسك ، الوحدة رأس العبادة ، ومؤنسها الفكرة. قلت : يا راهب فما أشدّ ما يصيبك في صومعتك من هذه الوحدة؟ قال : يا فتى ليس في الوحدة شدّة ، الوحدة أنس المريدين. قلت : يا راهب ما أشدّ ذلك عليك؟ قال : تواتر الرياح العواصف في الليل الشاتي. قلت : تخاف أن تسقط فتموت؟ فتبسم تبسما لم يفتح فاه ولكن أشرق وجهه وقال : يا فتى هل العيش إلّا في السقوط ، وما أشبهه من أسباب الموت؟ قلت : فلم يشتد ذلك عليك إن كان كذلك؟ قال : يا فتى أما والله إذا اشتدت عليّ الريح وعصفت ذكرت عند ذلك عصوف الخلق في
__________________
(١) عن المختصر ، وبالأصل : «لصع».
(٢) المختصر : إليها.