الموقف مقبلين ومدبرين لا يدرون ما يراد بهم ، حتى يحكم الله بين عباده ، وهو خير الحاكمين. وصاح صيحة أفزعتني من شدتها : يا طول موقفاه! قلت : يا راهب بما تقطع الطريق إلى الآخرة؟ قال : بالسهر الدائم ، والظمأ في الهواجر. قلت : يا راهب فأين طريق الراحة؟ قال : في خلاف الهوى. قلت : يا راهب متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال : عند أوّل قدم يضعها في الجنّة. قلت : يا راهب لقد تخليت عن الدنيا ، وتعلّقت في هذه الصومعة؟ قال : يا فتى إنه من مشى على الأرض عثر ، ففررت فرار الأكياس من فخ الدنيا ، وخفت اللصوص على رحلي ، فتعلقت في هذه الصومعة ، وتحصنت بمن في السماء من فتنة من في الأرض ، لأنهم سرّاقون للعقول ، وتخوفت أن يسرقوا عقلي ، وذلك أن القلب إذا صافى صديقه ضاقت به الأرض ، وإذا أنا تفكرت في الدنيا تفكرت في الآخرة وقرب الأجل ، فأحببت الرجل إلى رب لم يزل. قلت : يا راهب فمن أين تأكل؟ قال : من زرع لم أتولّ بذاره ، من بيدر اللطيف الخبير ، ثم قال : يا فتى إن الذي خلق الرحا هو يأتيها بالطحين ، ثم أشار بيده إلى رحا ضرسه. قلت : يا راهب كيف حالك في هذا الدنيا؟ قال : كيف حال من يريد سفرا بعيدا بلا أهبة ولا زاد ، ويسكن قبرا بلا مؤنس ، ويقف بين يدي حكم عدل؟
ثم أرخى عينيه فبكى قلت : يا راهب ما يبكيك؟ قال : يا فتى (١) حقا أقول لك ، ذكرت يوما [مضى] (٢) من أجلي لم يحسن فيه عملي ، أبكاني قلة الزاد وبعد المعاد ، وعقبة هبوط إلى جنة أو إلى نار. قلت : يا راهب فلو تحولت من هذه الصومعة وخالطتنا ، فإن عندنا رهبانا يخالطونا ويعاشرونا. قال : هيهات يا فتى كم من متعبد لله بلسانه معاند له بقلبه ، يقاد إلى عذاب السعير ، ذاك زاهد في الظاهر ، راغب في الباطن ، حسن القول ، خبيث المعاملة ، مشارك لابناء الدنيا لا [ ] (٣) أو يفر من جوار إبليس. قلت : استغفر الله. قال : يا فتى سرعة اللسان بالاستغفار من غير بلوغ توبة الكذابين ، ولو علم اللسان مما يستغفر [الله] (٤) لجف في الحنك. يا فتى ، إن الدنيا منذ ساكنها الموت لم تقرّ بها عين ، كلما تزوجت الدنيا بزوج طلقها الموت. فالدنيا من
__________________
(١) في المختصر : يا بني.
(٢) زيادة عن م.
(٣) سقطت من الأصل وم ومكانها بياض في المختصر ، وفي تهذيب ابن عساكر يبعد أو يفر.
(٤) الزيادة عن م.