الموت طالقة لم تقض عدّتها بعد ، فمثلها مثل الحية ليّن مسّها والسمّ في جوفها ، يحذرها رجال ذوو عقول ، ويهوي إليها الصبيان لقلة عقولهم ، وتضرعهم بمرارة عيشهم ، وكدرة صفوها. يا فتى ، كم من طالب الدنيا لا ينال حاجته ولم يبلغ أمله ولم يدركها ، ومدرك لها إدراك فيه مرارة عيشها وكدر صفوها.
واعلم يا فتى أن شدة الحساب ومعاينة الأهوال مع الحمل الثقيل سيثقل اليوم على المسرفين بما عملوا ومرحوا في الأرض بغير ما أمروا. يا فتى ، اجتناب المحارم رأس العبادة وسيعلم المتقون بما صبروا على سجع (١) الدنيا والطريق والظمأ في الهواجر ، والقيام على الأقدام في ظلم الدجى ، وإجاعة الأكباد وعري الأجساد ، وذلك أن الله عدل في قضائه سابق في مقاله ، أن لا يضيّع أجر المحسنين. قلت : يا راهب إني لأريد لنفسي شيئا من المطعم والمشرب فلا يكفيني حتى تتوق نفسي إلى أكثر من ذلك. قال : يا فتى إن نواصي العباد في يد الله عزوجل وقبضته فلا يجوزون من ذلك إلى غيره ، قد قسم أرزاقهم وفرغ من آجالهم ، تدبير الله عزوجل في مطعمه ومشربه أحرى ألّا يجريه تدبير لنفسه. قلت : أوه ضربت فأوجعت وشددت فأوثقت. قال : بل أطعمت وأشبعت ، ووعظت فنفعت. قلت : يا راهب بما يستعان على الزهد في الدنيا؟ قال : بتقصير الأمل ، وذكر الموت ، والمداومة على العمل. قلت : يا راهب فمتى (٢) ترحل الدنيا عن القلب ، وتسكن الحكمة الصدر؟
فصاح صيحة خرّ مغشيا عليه ، ومكث ساعة كذلك ، ثم أفاق من غشيته فقال لي : كيف قلت؟ قال : فأعدت عليه القول. فقال : لا والله ، لا ترحل الدّنيا عن القلب وأنت منكب على القراريط والفلوس تتلذذ بالنظر إلى كثرتها ، وتستعين بكسب الحرام على جمعها ، وأنت تحب النظر إلى هؤلاء وأشار بيده إلى الخلائق ، ثم قال : لا ترد موارد السباع الضارية المنقطعة عن الخلائق في الكهوف وأطراف الجبال الشواهق الصم الصلاب. يقول المسيح عيسى بن مريم : لا ينال العبد منال الصّدّيقين ودرجة المقربين ، ويعرف في الملكوت الأعلى حتى يترك امرأته أرملة عن غير طلاق ، وصبيانه يتامى من غير موت ، ويأوي إلى مرابض الكلاب ، فعند ذلك يعرف في الملكوت الأعلى وينال
__________________
(١) في اللسان (سجع) : السجع : الاستقامة.
(٢) عن المختصر وبالأصل «فما».