كثيرة مصفوفة قد أقبلت فلما رأيتها قلت : أين الصيادون ، فنظرت فإذا السمك فقد تفرق فقال لي إبراهيم : ما أنت بمطلوب في هذا الأمر ، ولكن عليك بهذه الرمال فوار فيها ما أمكنك ، وتقلل من الدنيا حتى يأتيك أمر الله ، ثم غاب عني فلم أره.
وكانت كتبه ترد عليّ فلما مات كنت قاعدا يوما حين تحرك قلبي بالخروج. فلما خرجت صرت إلى المسجد إذا أنا بأسود قام إليّ فقال : أنت أبو الحارث؟ قلت : نعم ، قال : آجرك الله في أخيك إبراهيم بن سعد ـ وكان هذا مولى له يسمى ناصح ، فذكر أن إبراهيم أوصاه أن يؤدي إليّ هذه الرسالة : يا أخي إذا نزل بك أمر من الله فاستعمل الرضا فإن الله مطّلع عليك ، يعلم ما في ضميرك ، فإن رضيت فلك الثواب الجزيل ، وأنت في رضاك وسخطك ليس تقدر أن تتعدى المقدور ، ولا تزداد في الرزق المقسوم والأمر المكتوب ، ففي هذه الأحوال تريد أن تحتال محلا فإن لم تجد إلى الرضا سبيلا فاستعمل الصبر فيه فإنه رأس الإيمان ، وفيه تمام النعمة. فإن لم تجد إلى الصبر سبيلا فعليك بالتحمل ، ولا تشك من ليس بأهل أن يشكى وهو من أهل الشكر والثناء القديم بما أولى وإذا اضطررت وقلّ صبرك فالجأ إليه بهمّك واشك إليه بثّك ، واحذر أن تستبطئه أو تسيء به ظنا. فإن كل شيء بسبب ، ولكل (١) سبب أجل ، ولكل أجل كتاب ، ولكلّ همّ من الله فرج ، ومن علم أنه بعين الله استحيا أن يراه يرجو سواه ، ومن أيقن بنظر الله إليه أسقط اختيار نفسه ، ومن علم أن الله هو الضار النافع أسقط مخاوف المخلوقين ، فراقب الله في قربه ، واطلب الأمور من معادنها ، واحذر أن تعتمد على مخلوق أو تفشي إليه سرا ، أو تشكو إليه بثا ، أو تعتمد على إخائه فإن غنيهم فقير وفقيرهم ذليل في فقره ، وعالمهم جاهل في علمه ، وجاهلهم فاجر في فعله إلّا القليل ممن عصم الله ، فاتقوا الفاجر من العلماء والجاهل من العباد فإنهم فتنة كل مفتون.
قال : وأنا أبو عبد الرّحمن قال : سمعت عبد الله بن علي يقول : سمعت الوجيهي يقول : سمعت أبا الحسن بن أبي شيخ يقول : قال عبد الله بن مصل (٢) الأولاسي : بات أبو الحارث الأولاسي فسألته عن مفارقته إبراهيم بن سعد العلوي فقال : كانت الدنيا طوع يده فلما انتهى إلى الساحل قال لي : ترجع؟ قلت : بل أصحبك فتفل في البحر فإذا
__________________
(١) بالأصل : «وللكلّ».
(٢) كذا.