فإن هذه كلها مصادر لم تستعمل أفعالها ، فإن زعمتم أن ما ذكرتموه من خلو الفعل عن المصدر يصلح أن يكون دليلا لكون الفعل أصلا فليس بأولى مما ذكرناه من خلو المصدر عن الفعل في كون المصدر أصلا ؛ فتتحقق المعارضة فيسقط الاستدلال.
وأما قولهم «إن المصدر لا يتصور ما لم يكن فعل فاعل ، والفعل وضع له فعل ويفعل» قلنا : هذا باطل ؛ لأن الفعل في الحقيقة ما يدل عليه المصدر ، نحو الضّرب والقتل ، وما نسميه فعلا من فعل ويفعل إنما هو إخبار بوقوع ذلك الفعل في زمان معين ، ومن المحال الإخبار بوقوع شيء قبل تسميته ؛ لأنه لو جاز أن يقال «ضرب زيد» [١٠٧] قبل أن يوضع الاسم للضرب لكان بمنزلة قولك : أخبرك بما لا تعرف ، وذلك محال ، والذي يدل على صحة ما ذكرناه تسميته مصدرا ، قولهم «إن المراد به المفعول ، لا الموضع ، كقولهم : مركب فاره ، ومشرب عذب ، أي مركوب فاره ومشروب عذب» قلنا : هذا باطل من وجهين ؛ أحدهما : أن الألفاظ إذا أمكن حملها على ظاهرها فلا يجوز العدول بها عنه ، والظاهر يوجب أن يكون المصدر للموضع لا للمفعول ؛ فوجب حمله عليه. والثاني : أن قولهم «مركب فاره ، ومشرب عذب» يجوز أن يكون المراد به موضع الركوب وموضع الشرب ، ونسب إليه الفراهة والعذوبة للمجاورة ، كما يقال «جرى النّهر» والنهر لا يجري ، وإنما يجري الماء فيه ، قال الله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [البقرة : ٢٥] فأضاف الفعل إليها وإن كان الماء هو الذي يجري فيها ؛ لما بيّنا من المجاورة ، ومنه قولهم «بلد امن ، ومكان آمن» فأضافوا الأمن إليه مجازا ؛ لأنه يكون فيه ؛ قال الله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [البقرة : ١٢٦] وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) [العنكبوت : ٦٧] فأضاف الأمن إليه لأنه يكون فيه ، ومنه قوله تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ : ٣٣] فأضاف المكر إلى الليل والنهار لأنه يقع فيهما ،
______________________________________________________
وبعدا ، وسحقا ، ومن ذلك قولك : تعسا ، وتبا ، وجوعا ، وجوسا ، ونحو قول ابن ميادة :
* تفاقد قومي ... البيت*
وقال [عمر بن أبي ربيعة المخزومي] :
ثم قالوا : تحبها؟ قلت : بهرا |
|
عدد النجم والحصى والتراب» اه |
نقول : إن أراد المؤلف ذلك المعنى لم يتم له معارضة الخصم ؛ لأن من غرضه أن يقول : إن لنا في العربية مصادر ليست لها أفعال ، فكيف يستقيم أن يقال : إن المصدر مأخوذ من الفعل؟ وهل ثمة فرع ليس له أصل؟ ولو أنه اقتصر على ويله وويحه وويبه وويسه لتم له الكلام ؛ لأن هذه المصادر لم يستعمل العرب لها أفعالا ، فاعرف هذا ، ولا تكن أسير التقليد.