قولك «زيد أمامك ، وعمرو وراءك» زيد استقر في أمامك ، وعمرو استقر في ورائك ثم حذف الحرف فاتصل الفعل بالظرف فنصبه ، فالفعل الذي هو استقر مقدّر مع الظرف ، كما هو مقدّر مع الحرف.
[١٠٩] وأما من ذهب من البصريين إلى أن الظرف ينتصب بتقدير اسم الفاعل ـ وهو مستقر ـ قال : لأن تقدير اسم الفاعل أولى من تقدير الفعل ؛ لأن اسم الفاعل اسم يجوز أن يتعلق به حرف الجر ، والاسم هو الأصل (١) ، والفعل فرع ، فلما وجب تقدير أحدهما كان تقدير الأصل أولى من تقدير الفرع.
والصحيح عندي هو الأول ، وذلك لأن اسم الفاعل فرع على الفعل في العمل وإن كان هو الأصل في غير العمل ؛ فلما وجب هاهنا تقدير عامل كان تقدير ما هو الأصل في العمل ـ وهو الفعل ـ أولى من تقدير ما هو الفرع فيه وهو اسم الفاعل.
والذي يدل على صحة ما ذكرناه أنا وجدنا الظرف يكون صلة للذي ، نحو : «رأيت الّذي أمامك ، والّذي وراءك» وما أشبه ذلك ؛ والصلة لا تكون إلا جملة فلو كان المقدر اسم الفاعل الذي هو مستقر لكان مفردا ؛ لأن اسم الفاعل مع الضمير لا يكون جملة ، وإنما يكون مفردا ، والمفرد لا يكون صلة ألبتة ، فوجب أن يكون المقدر الفعل الذي هو استقرّ ، لأن الفعل مع الضمير يكون جملة ؛ فدل على ما بيّناه.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن خبر المبتدأ في المعنى هو المبتدأ ، وإذا قلت «زيد أمامك ، وعمرو وراءك» فأمامك ليس هو زيد ، ووراءك ليس هو عمرو ، فلما كان مخالفا له وجب أن يكون منصوبا على الخلاف» قلنا : هذا فاسد ؛ وذلك لأنه لو كان الموجب لنصب الظرف كونه مخالفا للمبتدأ لكان [المبتدأ] أيضا يجب أن يكون منصوبا ؛ لأن المبتدأ مخالف للظرف كما أن الظرف مخالف للمبتدأ ؛ لأن الخلاف لا يتصور أن يكون من واحد وإنما يكون من اثنين فصاعدا ؛ فكان ينبغي أن يقال «زيدا أمامك ، وعمرا وراءك» وما أشبه ذلك ؛ فلما لم يجز ذلك دل على فساد ما ذهبوا إليه.
وأما قول أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب : «إنه ينتصب بفعل محذوف غير مقدر ، إلى آخر ما قرر» ففاسد أيضا ؛ وذلك لأنه يؤدي إلى أن يكون منصوبا بفعل
__________________
(١) لأن تقدير الاسم لا يحوج إلى تقدير آخر ، بخلاف تقدير الفعل فإنه يحوج إلى تقدير آخر ، وما لا يحوج إلى التقدير أصل لما يحوج إليه. وأيضا لأن الاسم مفرد ، والفعل مع فاعله جملة ، والمفرد أصل ، والجملة فرع عليه.