أنه إذا لم يكرر الظرف أنه يجوز فيه الرفع والنصب ، فكذلك إذا كرر ؛ لأن قصارى ما نقدر أن يكون مانعا تكرّر الظرف ؛ لأن «في» الأولى تفيد ما تفيده الثانية ، وهذا لا يصلح أن يكون مانعا ، لأن الأولى وإن كانت تفيد ما تفيده الثانية إلا أن الثانية تذكر على سبيل التوكيد ، والتوكيد شائع في كلام العرب مستعمل في لغتهم ، وهذا لا خلاف فيه ، وصار هذا كقولهم «فيك زيد راغب فيك» ولا شك أن «فيك» الأولى تفيد ما تفيده الثانية ، ومع هذا لم يمتنع صحة المسألة ، فكذلك هاهنا.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما احتجاجهم بقوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) [هود : ١٠٨] وقوله تعالى : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) [الحشر : ١٧] فلا حجّة لهم في هاتين الآيتين ؛ إذ ليس فيهما ما يدل على أنه لا يجوز الرفع ، وإنما فيهما دلالة على جواز النصب ، ونحن نقول به.
وقولهم : «إنه لم يرو عن أحد من القراء بالرفع فوجب أنه لا يجوز» قلنا : لا نسلم ؛ فإنه قد روي عن الأعمش أنه قرأ خالدون فيها بالرفع ، على أن هذا الاستدلال [١١٨] فاسد ، وذلك لأنه ليس من ضرورة أنه لم يقرأ به أحد من القراء أن لا يكون كلاما جائزا فصيحا. ألا ترى أنه لم يأت في كتاب الله عزوجل ترك عمل «ما» في المبتدأ والخبر نحو «ما زيد قائم ، وما عمرو ذاهب» إلا فيما ليس بمشهور ، وإن كانت لغة مشهورة معروفة صحيحة فصيحة وهي لغة بني تميم ، ثم لم يدل ذلك على أنها ليست فصيحة مشهورة مستعملة؟ فكذلك هاهنا.
وأما قولهم «إنّا لو حملناه على الرفع لأدى ذلك إلى أن تبطل فائدة الثانية لنيابة الأولى عنها في الفائدة» قلنا : هذا فاسد ؛ وذلك لأنه وإن كانت الأولى تفيد ما تفيده الثانية إلا أن ذلك لا يدل على بطلان فائدة الثانية ؛ لأن من مذاهب العرب أن يؤكد اللفظ بتكريره ؛ فيقولون «لقيت زيدا زيدا ، وضربت عمرا عمرا» فيكون المكرر توكيدا للأول ، وإن كان الأول قد وقعت به الفائدة ، وقد قال الله تعالى : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) [هود : ١٩] فهم الثانية تكرير للتوكيد ، والتقدير : وهم بالآخرة كافرون ، في أحد الوجهين ، ومع هذا فلا يقال إنه لا يجوز ، فكذلك ها هنا ، ومن تدبر سورة (الرحمن) و (قل يا أيها الكافرون) علم قطعا أن التكرير للتوكيد لا ينكر في كلامهم ؛ لما فيه من الفائدة ، وكثرة ذلك في كتاب الله تعالى وكلام العرب ، وشهرته في استعمالهم ، تغني عن الإسهاب والتطويل بالشواهد ؛ إذ كان ذلك أكثر من أن يحصى ، وأشهر من أن يظهر ، والله أعلم.