فدلّ على أنه جائز.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : أجمعنا على أنّ «من» في المكان نظير مذ في الزمان ؛ لأن من وضعت لتدل على ابتداء الغاية في المكان ، كما أن مذ وضعت لتدل على ابتداء الغاية في الزمان ، ألا ترى أنك تقول «ما رأيته مذ يوم الجمعة» فيكون المعنى أن ابتداء الوقت الذي انقطعت فيه الرؤية يوم الجمعة ، كما تقول «ما سرت من بغداد» فيكون المعنى ما ابتدأت بالسير من هذا المكان ، فكما لا يجوز أن تقول «ما سرت مذ بغداد» فكذلك لا يجوز أن تقول «ما رأيته من يوم الجمعة».
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما احتجاجهم بقوله تعالى : (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) [التوبة : ١٠٨] فلا حجة لهم فيه ؛ لأن التقدير فيه : من تأسيس أوّل يوم ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، كما قال تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) [يوسف : ٨٢] والتقدير فيه : أهل القرية وأهل العير ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، وقال تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) [البقرة : ١٧٧] وكقولهم : الجود حاتم ، والشجاعة عنترة ، والشّعر زهير ، أي : جود حاتم ، وشجاعة عنترة ، وشعر زهير ، وكقولهم «بنو فلان يطؤهم الطّريق» أي : أهل الطريق ، وقال الشاعر :
[٢٣٣] حسبت بغام راحلتي عناقا |
|
وما هي ـ ويب غيرك ـ بالعناق |
______________________________________________________
وأن حمادا الراوية لما رأى هذا البيت مطلع القصيدة ابتكر ثلاثة أبيات جعلها مقدمة لهذا المطلع ، أولها بيت الشاهد ، وبعده :
لعب الزمان بها وغيرها |
|
بعدي سوافي المور والقطر |
قفرا بمندفع النحائت من |
|
صفوي أولات الضال والسدر |
فإن سلمنا صحة الرواية التي رواها الكوفيون وسلمنا مع ذلك صحة نسبة البيت إلى زهير فتخريجه على ما ذكره المؤلف.
[٢٣٣] أنشد ابن منظور (ع ن ق) هذا البيت أول بيتين ، وأسند روايتهما لابن الأعرابي ، ونسبهما لقريط يصف الذئب فالخطاب له ، ثم أنشده وحده (ب غ م) ونسبه لذي الخرق. وبغام الناقة ـ بضم الباء وتخفيف الغين ـ صوت لا تفصح به ، وبغام الظبية : صوتها ، وقد بغمت تبغم ـ من مثال ضرب ونصر وفتح ـ بغوما ويغاما. وتقول : بغمت الرجل ؛ إذا لم تفصح له عن معنى ما تحدثه به. والراحلة ، هنا : الناقة سميت بذلك لأن صاحبها يرتحلها : أي يركبها أو يضع رحله عليها ، والعناق ـ بفتح العين وتخفيف النون ـ الأنثى من المعز.
ومحل الاستشهاد بالبيت قوله «عناقا» فإنه على تقدير مضاف يتم به التشبيه ، ألا ترى أنه لا يصح تشبيه صوت الناقة بالعناق نفسها؟ وإنما يصح تشبيه صوت الناقة بصوت العناق.